الشاشة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: السبت 9 نوفمبر 2013 - 7:35 ص بتوقيت القاهرة

شاشات كثيرة تملأ المحال والطرقات، تتربع فى الزوايا والأركان، تحتل جدران المقاهى الحديثة والتقليدية أيضا؛ الفقير منها وفاحش الرفاهية والثراء. شاشات متنوعة الشكل والحجم والقيمة، عملاقة ومتواضعة. شاشات فى نوادى اللياقة البدنية، وفى المطاعم والمولات والميادين وكذلك فى إشارات المرور، شاشات تعرض كل شىء وأى شىء فى أى وقت.

يُلقى إليها العابرون بنظرات سريعة مشوشة، ويرفع الجالسون أعينهم صوبها بين الحين والآخر، ولا يفسر أحدهم ما تُلقِى به من صور وأصوات إلا فيما ندر، مع ذلك يبدو أنها تجتذب إلى موضعها الناس فتُضَاعِف أعداد الزبائن، وتُغرى الزوار بمزيد من الزيارات، وتُحَقِّقُ فى الأحوال جميعها مكسبا مُضَافَا لأصحابها.

 

ذات يوم، شكت لى امرأة شابة تقوم على شئون إحدى العيادات الطبية الخاصة، مِن رفض الطبيب طلبها المتكرر بوضع شاشة على حائط صالة الانتظار. لم يُحرضها مريض ضَجِرٌ على أن تفعل ولا حدثتها بشأن الشاشة مريضة تريد متابعة حلقات مسلسل، لكن المرأة ارتأت أن واجبها يقتضى تسلية مرضاها والتسرية عنهم بالوسائل التى تعرفها. يبدو أن المطلب لم يلق قبولا كافيا من الطبيب الكبير الذى أصر على ترك الحائط عاريا، بينما ظلت هى تشكو وتتذمر من الملل. أيدت فى نفسى موقف الطبيب إذ لم أتمكن لأسباب خاصة من التعاطف مع فكرتها رغم أنها تبدو ذات وجاهة، ورغم إدراكى أن نسبة لا بأس بها من أروقة المستشفيات ومعامل التحاليل ومراكز الأشعات صارت تزدان هى الأخرى بوفرة من الشاشات الضخمة؛ الراقصة أو الواعظة تبعا لميول وأهواء من يديرون المكان. ما زلت من أصحاب الميول القديمة: أفضل أن أعبث بورقة وقلم عن أن أحدق فى شاشة تمتص طاقتى.

 

أفهم أن يتسلى المنتظرون بأى شىء متاح، وأن تجتذب الأغانى والبرامج الترفيهية الأشخاص حين لا ينشغلون بشىء يحتاج إلى جَهد عقليّ وتركيز، أفهم كذلك أن تدير ربات البيوت التليفزيونات ويتركنها وحيدة ثم يطفن ليؤدين الأشغال وأعمال الترتيب والتنظيف وغيرها، وقد لا يعرفن ــ إذا ما سألهن زائر ــ ما كان يُذَاعُ خلال هذا الوقت. أفهم هذا كله لكن الغريب فى الأمر أن كثيرا من المنشغلين بأعمال ذهنية عسيرة يفضلون أداءها بينما الشاشة أمامهم مستمرة فى البث. أشخاصٌ لا حصر لهم يفضلون القراءة والكتابة والتخطيط فى وجود صورة متغيرة لا يتابعونها، وفى أحيان اخرى؛ راديو لا يميزون صوته جيدا. يصبح الأمر بالنسبة إليهم طقسا اعتياديا كفنجان القهوة، وحفنة السجائر، والجلسة المناسبة فى الموضع الذى لا يتبدل.

ربما يصعب على هؤلاء الذين اعتادوا الحياة وسط صخب لا ينتهى أن يعملوا أو حتى يستريحوا فى غياب الحركة والأصوات التى تلح على آذانهم وتملأ الهواء من حولهم، ربما يشعرون بالوحشة فى ظل الصمت ويطمحون إلى كسر حالة الثبات والسكون، يسعون إلى فرض قليلٍ من الضوضاء التى يمكنهم التحكم فيها، والتى تشعرهم بأن شيئا لم يتغير رغم انشغالهم وبأنهم على صلة مستمرة بهذا العالم، لم ينعزلوا ولم يصبحوا منسيين. تُرضى الشاشة تلك الرغبة فى الإحساس بالونس والائتناس بصحبة ما، حتى وإن كانت صحبة جامدة، جهاز كهربائى لا يتفاعل ولا ينفعل، يُلقى فقط بما لديه ولا يستقبل شيئا.

قد لا يتوقف الأمر عند الاحتفاظ بصلة مع ما يدور فى الخارج، ليصبح عملية تنشيطية محضة تدعم العمل وتطوره؛ كلمة تخرج من فم الشاشة دون مقصد واضح قد تترك أثرها فى العقل المنشغل، وتثير معانى جديدة ومواضيع متشعبة ربما لم يكن ليلتفت إليها فى حال أخرى، بل وربما تُشَتِّتُ الصور والمشاهد المتنوعة ذاك التفكير المنطلق فى مسار أحاديّ، فتُخرِجه إلى مسارات أخرى جديدة أكثر إبداعا ورحابة وأقل تنميطا وتقليدية.

 

من عجب أن تصبح الشاشة فى بعض الأوقات فردا من أفراد العائلة، تتمتع مثله بالكثير من الحقوق، فإذا دار نقاش بين المجتمعين، علت النبرات وراوغت فى محاولة لتجاوز الصوت الصادر عنها وتلافى الانجذاب إلى لقطاتها، دون أن يجرؤ أحد على إسكاتها، فإذا سكتت كان انقطاع البث كفيلا ببعث الضيق، والإسراع بإصلاح العطب وإعادتها إلى الحياة، دون أن يلتفت أحد لما كانت تبثه على وجه التحديد. تمتلك الشاشة حق الوجود والتعبير على عكس الكثيرين.

فى الأحوال كلها تنطلق الشاشات هنا وهناك، تداعب البعض وتسلى البعض، تنشط أفكار أناس وتوفر الصحبة لآخرين. تعمل طيلة الوقت كما لو كانت تملأ فراغا غير مرئيّ.. فراغ لا يُوَلدُ إلا فى حال غيابها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved