عن معضلة الإيمان بالدولة

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: الأحد 9 نوفمبر 2014 - 8:30 ص بتوقيت القاهرة

لعل واحدة من أكبر المشكلات التى يواجهها المجتمع المصرى سواء على مستوى السلطة أو على مستوى المعارضة أو حتى على مستوى التيارات التى خرجت من هذه المعادلة التقليدية للعمل السياسى، هى معضلة «الإيمان بالدولة»! والمقصود بذلك أنه بينما تخطت دول كثيرة فى أوروبا وآسيا والأمريكتين معضلة تعريف الدولة والتجادل حول جدواها وحدودها ووظائفها وعلاقتها بغيرها من المؤسسات الدينية والاجتماعية، فإن مصر ضمن عدد آخر محدود من الدول والمجتمعات الآخذة فى التحول مازالت تبحث عن إجابات لهذه الأسئلة البسيطة المتعلقة بماهية الدولة ككيان قانونى واقتصادى وسياسى واجتماعى وحدود وظائفها وأدوارها ومساحات التماس مع غيرها من المؤسسات والجماعات المنافسة.

ورغم أن ظاهرة الدولة الوطنية الجامعة هى ظاهرة حديثة نسبيا فى تاريخ العالم حيث لم يتخط عمر معظم دول العالم القرنين من الزمان مع استثناءات قليلة، فإن حسم هذه الأسئلة حدث سريعا مع تبنى أفكار حداثية ارتبطت فى معظمها بثورات صناعية ولاحقا تكنولوجية ومعلوماتية حررت البشر من الكهنوت الدينى (لا من الدين نفسه) والسلطوى بأشكاله المختلفة وأحدثت تطورات ثقافية واجتماعية حسمت إجابات بشرية عن هذه الأسئلة مما دفع هذه المجتمعات للتفرغ للتنمية والتقدم والإجابة عن الأسئلة الأكثر عمقا عن التنمية البشرية والبيئية والتعامل مع سيناريوهات تحديات المستقبل.

ورغم أن الدولة المصرية ضاربة بعمق فى تاريخ البشرية منذ الحضارة الفرعونية العظيمة وحتى اللحظة مرورا بموجات من المد والجزر عبر تاريخها الطويل والتى تمكنت فيه من استيعاب العديد من الحضارات والثقافات التى أثرت بشدة على شكل الشخصية المصرية الحالية ــ فإن الإجابة عن الأسئلة السابقة مازالت محل جدل كبير وتنازع واستقطاب بين تيارين رئيسيين. يعبد الأول الدولة ككيان قانونى وسياسى يرى فيه الحامى والمعرف والمحدد للشخصية المصرية الفريدة ويقبل التضحية بالبشر فى سبيل الحفاظ على هذا الكيان الذى أصبح مصدر الحماية والأمان، ويرى هذا الفريق أن الحضارة الفرعونية العريقة هى مصدر سيادة وتمايز الدولة المصرية الفريدة. وفريق آخر لا يؤمن بالدولة ككيان مستقل بذاته ويبحث عن تخطيها لحساب كيانات عابرة للدولة وتتخذ من مفهوم «الأممية» بديلا عن الدولة ككيان جامع للمسلمين قد يتطور لاحقا ليصل إلى مرحلة دولة الخلافة الحلم الذى يداعب الجميع. يعتبر هذا التيار أن الحضارة الإسلامية هى مصدر شرعية وتمايز هذه الأمة الفريدة وأن الشريعة الإسلامية هى محدد العلاقة بين المواطنين المسلمين المتمايزين بعقيدتهم وغيرهم من «أهل الذمة» كمؤمنين بديانات سماوية غير الإسلام وماعدا هؤلاء ليس له مساحة معترف بها.

•••

صحيح أن هذا التصنيف به قدر من التعميم المخل والمبسط لأمور أكثر تعقيدا وخصوصا أن بين التيارين هناك تيارات أخرى متنوعة ومغايرة. منهم تيار مثلا لا يؤمن أصلا بالدولة أو الأمة ككيانات جامعة ويبحث عن حالة يوتوبية أناركية متعولمة ومتخطية لكل القيود المادية بين البشر، لكن يظل هذا التصنيف معبرا عن حالة الاستقطاب الرئيسى فى مصر حول تعريف الدولة ووظائفها وحدودها.

فى تقديرى فإن هذا النزاع التقليدى الذى لا ينتهى عادة بين هذين التيارين سببه بالأساس أن مصر مازالت أسيرة لنموذج دولة ما بعد الاستعمار حيث التنازع بين الأبطال الوطنيين المحررين للوطن من براثن الاستعمار وهم عادة قادة عسكريون حداثيون وقوميون حاولوا دفع قطار التصنيع والتحول الاجتماعى بتحرير طبقات العمال والفلاحين من سيطرة الإقطاعيين فى الريف والمدن إما بإعادة توزيع الثروات وهو ما يستلزم تأميمها أولا، أو عبر احتكار عملية السياسة وفى قلبها صنع السياسات العامة باعتبارها وظيفة احتكارية لرجال الدولة الوطنيين وذلك من خلال تجربة الحزب الواحد والبرلمان الواحد والرجل الواحد والشعب الذى يقف كله على قلب رجل واحد! وبين التيارات الإسلامية التى شاركت فى عملية التحرير من الاستعمار باحثة عن أطر عابرة للدولة وباحثة عن الخلافة أو الأممية الإسلامية من خلال تطبيق الشريعة الإسلامية ورفض تطبيق أى تشريعات بشرية باعتبار أن الإسلام قدم رؤية متكاملة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلى البشر المؤمنين به الانصياع التام لها وعلى غير المؤمنين به الخضوع لترتيباته أو المغادرة ببساطة.

•••

قطعا كان الصدام بين التيارين حتميا وكلف ــ ولايزال ــ مصر الكثير من الدماء التى تسببت فى تعميق الفجوة بين أبناء الوطن الواحد والتفرغ لتكتيكات صراعية تستنفد الجهود والعقول والأرواح لتظل البلاد تدور فى حلقات مفرغة من العنف والصراعات تاركة معارك التنمية والتقدم الأهم بلا إجابات! ومن هنا فلابد من تقديم رؤية مغايرة لتخطى هذه العقبات سريعا وإلا ستظل البلاد محلك سر.

أولا: لابد من إعادة النظر فى مفهوم ونموذج دولة ما بعد الاستعمار، فالوظيفة الرئيسية للدولة الحالية يجب أن تتخطى فكرة «الوصاية» إلى فكرة «الحماية» وذلك بالتحول من فلسفة «المهيمن» على صنع وتشريع وتنفيذ القوانين والقرارات إلى مرحلة «الضامن» لتنفيذ القوانين والقرارات بعدل على جميع المواطنين.

ثانيا: لابد من فصل الفاعلين المعبرين عن الدولة (الأجهزة الأمنية والجيش والجهاز البيروقراطى والسلطة القضائية) عن الفاعلين المتنافسين على السلطة (الأحزاب والتيارات السياسية المشكلة والمتنافسة على السلطتين التنفيذية والتشريعية) مع إعادة صياغة دور ووظائف المؤسسة الإعلامية.

ثالثا: لا يعنى هذا الفصل الجمود ولا التعسف ولكنه يعنى إعادة تفصيل الأدوار وخطوط التماس بين الفاعلين الدولاتيين وبين الفاعلين السياسيين من خلال فلسفة دستورية جديدة تقوم بالأساس على فلسفة حقوق المواطن وواجباته وحرمة نفسه وجسده أمام الكيانات «الدولاتية» والسياسية المختلفة من خلال مبدأ سيادة القانون باعتباره حجر أساس السيادة والهيبة للدولة.

رابعا: لابد للتيارات الإسلامية استيعاب حقائق التاريخ والتعاطى ببراجماتية مع حقيقة الدولة القومية الحديثة بالمعنى المطروح فى هذه المقالة، واعتبار أن أى كيانات غير قومية لابد أن تكون كيانات منسقة ومتحاورة ومتعاونة مع الدولة القومية لا كيانات عابرة أو متخطية لها.

خامسا: من الضرورى فى وسط كل هذا دخول تيارات الإسلام السياسى فى حوار معمق وغير مسيس بهدف تحويل الحديث عن الشريعة من مرحلة التنظير والشعارات إلى مرحلة «التأشير» أى تحويلها إلى مجموعة من المؤشرات القابلة للقياس فى شكل برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تفصل بين الثابت والمؤول، بين البشرى والمقدس، وتضع المقاصد عين الاعتبار، وتراعى التطورات التاريخية الحادثة فى الدولة القومية والتى أضحت تساوى بين جميع المواطنين بغض النظر عن عقائدهم وانتماءاتهم العرقية بعيدا عن التفسيرات الكهنوتية الرافضة والمتحدية بعصبية غير مفهومة لحركة التاريخ والتطور والحداثة.

سادسا: لا يمكن القيام بكل ما سبق دون توافر ثلاثة شروط مسبقة. يتمثل الأول فى اعتبار الدولة القومية الديموقراطية الحديثة هى محور الحديث، وهى التغيير والتنمية دون تخطيها لصالح كيانات هلامية مع قبول مبدأ التفاوض والحوار والشراكة مع كيانات أخرى أممية أو إقليمية تحترم الدولة، ويتمثل الثانى فى رفض مبدأ العنف والإرهاب كوسيلة للتغيير، بينما يتمثل الثالث بالتزام كل الأطراف والفاعلين السياسيين والدولاتيين بمصر بمبدأ سيادة الدستور والقانون واعتبار أن المواطن ونفسه وجسده هو محور ارتكاز الدولة لا العكس ومن ثم ضرورة القبول بمبدأ التعددية والدمج مع كل المواطنين الملتزمين بالقانون والدستور.

•••

نشعر بغصة فى القلب حينما نرى دولا كانت بالأمس القريب شبيهة بدولنا بل وربما فى ظروف أصعب وهى الآن تسبقنا بكثير لأنها كسرت كهنوت السلطة والدين والمجتمع وأعادت تعريف العلاقة بين أطرافها فى إطار عملية تفاوضية تعددية ندية بين الفاعلين المختلفين فأدركت ركب التقدم والتنمية والرفاهة بينما مازلنا ندور فى غياهب الصراعات الصفرية، فمتى نبدأ ونكسر محرمات صنعناها بأنفسنا ثم أضحينا نعبدها من دون الله؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved