متتالية شواهد القبور

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 9 نوفمبر 2014 - 8:20 ص بتوقيت القاهرة

هذه الأرض لم تعد تستوعب كل هذا الموت وأكداس الجثث.. أبو شهيد، أخو شهيد، أمهات الشهداء.. عطر الكافور... قطع القماش الأبيض والأكفان، وأحيانا الأعلام التى تلف بها الأجساد.. هالة تشع حول الرأس، ووجوه شاخصة ترسم فوق الجدران. على هذه الأرض، أصبح للموت سحر وجاذبية. حلم الشهادة يؤدى بصاحبه إلى الخلود ويعطى للحياة معنى خاص حين تعم الفوضى، جنبا إلى جنب مع أفكار طائفية وعنصرية ونظريات لا تنتهى. يصعد الشيخ إلى المنبر ويقرر أن تكون خطبة الجمعة هذا الأسبوع حول الشهادة، تماشيا مع الأحداث، كما أننا فى شهر محرم، شهر الاحتفال بذكرى الحسين، سيد الشهداء وإمامهم. ورغم انقضاء كل هذه السنوات والقرون على مقتل الحسين بن على، حفيد النبى محمد صلى الله عليه وسلم، فى معركة كربلاء عام 61 هجريا، لا يزال الشيعة يلطمون ويضربون ظهورهم بالسلاسل تعبيرا عن حزنهم العميق ولا تزال ذكرى عشوراء تثير حفيظة البعض وأحيانا يتطور الأمر إلى جدل واسع لا يرجى منه شيئا.

•••

وجدتنى أرعى النجوم كل ليلة، وأطلب العفو: لماذا يموت كل هؤلاء؟ ألم يقل درويش يوما: على هذه الأرض ما يستحق الحياة؟! ووجدتنى أرتحل بين أضلاع ثلاثية: المقاومة، والسياسة، والذاكرة... معهم يتحول الخوف من الموت إلى واجب مقدس، ويتحول الشهيد إلى خالد الذكر بواسطة مجموعة من الطقوس والإشارات، وهو ما يشترك فيه كل أنواع الشهداء، لأن هؤلاء أيضا أنواع وفرق، وكل فريق يعتقد أن شهيده فى الجنة وقتلاهم فى النار، فعندما عرف الإمام الشافعى الشهيد بأنه من يحارب الكفار، لم يحدد درجة الإيمان المطلوبة لينعت الشخص بالكفر أو ضعف الإيمان... ومن الذى فى مقدوره أن يحدد متى يسلب الآخر حياته وتحت أى مسمى وفى أى ظرف؟ نيرون ودقلديانوس وغيرهم من أباطرة الرومان عندما اضطهدوا المسيحيين قديما صنعوا أيقونات ستبقى لأبد التاريخ، وحديثا فى زمن الثورات العربية عندما يرسم فنانو الجرافيتى صور زملائهم الذين لقوا مصرعهم برصاص غادر ويحولونهم إلى رموز للمقاومة، تمتزج النقوش الفرعونية بالعيون التى تشبه بورتريهات الفيوم الشهيرة، وتنطلق الشعارات فى الشوارع وعلى النواصى: «يا نجيب حقهم يا نموت زيهم»، «يا رب حق الشهيد عشان ينام مرتاح والمصرى يبقى سعيد»، «لو بعتوا الشهيد بكره ح تتباعوا»،... عندما يكتب هؤلاء على الجدران «المجد للشهداء»، يقصدون هنا شهداء الثورة من الشباب المبتسم الذى آمن بفكرة فلقى حتفه، يقصدون «الأنا» الثورية التى تدافع عن يوتوبيا الحرية، ولا يقصدون من ذهب ليفجر نفسه طواعية بشريط ناسف أو عربة مفخخة باسم الجهاد المقدس ولا من كان يقف فى كمين أو دورية وهو يرتدى لباسا رسميا... حتى لو تعاطفوا معهم. كل فريق يطلب المجد لشهدائه، والموت هنا يحمل مشاعر ودلالات متضاربة، الموت هنا يختلط بالسياسة وبما وراء السياسة.

•••

العنف أحيانا يتعدى حدود السياسة، يمتزج بأهداف مطلقة سواء دينية أو عقائدية أو أخلاقية، ما يجعل أفرادا يضحون بحياتهم من خلال فعل انتحارى تمتزج فيه معانى الأمل واليأس: الأمل فى تغيير شىء ما للمستقبل، واليأس من الوضع الحالى والشعور بعدم الرضا تجاهه. من خلال فعل المقاومة يسعى الفرد إلى إعادة اكتشاف ذاته والتأكيد على هويته، وفى الوقت نفسه يسعى إلى تحرير الأوطان أو نصرة جماعة بعينها، وتتغلب مصلحة الجماعة على الفرد ليصبح الأخير مجرد حلقة فى سلسال طويل يحصد الأرواح ويحول المنطقة بأسرها إلى متتالية لشواهد القبور... يصبح المواطنون أسرى فكرة الشهادة، يقولون إنهم يحبون الحياة لذا يختارون الموت، وهم مقتنعون أنهم حين يموتون يفعلون ما هو فى الصالح العام، أو هكذا أقنعهم القادة لأسباب سياسية وبرجماتية. ولا يتوقف هؤلاء عند فكرة أن موت أحدهم خلال المعارك أو العمليات قد يأتى نتيجة إهمال أو سوء تقدير تكتيكى أو فشل فى مهمتهم أو لوجودهم فى المكان غير المناسب.. أو ربما لأن الطرف المقابل أقوى منه إيمانا أو أكثر صدقا.. لا يمكن مناقشة ذلك، لأن هذه الأمور لا تتوافق مع قدسية الموت والشهادة، كما زرعها فينا الأولون.. إذ تبلورت هذه القدسية واكتسبت رمزيتها العالية من خلال الثقافة الشيعية القائمة على الشهادة، منذ موت الإمام الحسين ومن قبله سيدنا على. ثم مع ثورة الخمينى تم استثمار الفكرة سياسيا، وتكرر ذلك مع الحرب الايرانية العراقية (من 1980 إلى 1988) لتصب فى صالح الحكام. صارت نافورة الشهداء ذات المياه الحمراء مزارا فى جنوب طهران، لتذكر بمن رحل من الشهداء فداء للثورة أو للوطن، وانتشرت فكرة العمليات الانتحارية وانتقلت من إيران إلى حزب الله اللبنانى، ومن بعدها اعتمدتها جماعات إسلامية سنية مثل حماس والجهاد الإسلامى فى فلسطين، كما يشير بعض المراقبين، ومنهما إلى فصائل راديكالية أخرى والتى تأثر بعضها بالماركسية ــ اللينينية والقومية العربية وتعثر هذه التجارب. يسجلون الحدث بالفيديو ويعلقون صور من قاموا بعمليات انتحارية ويعزون الأمهات الثكالى بعد أن تحول أولادهم لأيقونات تحمل شرائط سوداء. يصعد الشيخ أو صاحب العمامة السوداء أيا كان إلى المنبر ويقول خطبته عن الشهادة، وتضاف عناصر أخرى جديدة إلى أسطورة الشهداء، دون التفكير فى واقع الأمر أنه بإمكاننا أن نعيش سعداء وأن يكون المجد للأحياء

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved