نحو «هدنة» فى جبهات المشرق العربى: الانتخابات الرئاسية فى لبنان كمؤشر

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 9 نوفمبر 2016 - 7:40 ص بتوقيت القاهرة

يعيش المشرق العربى حالة من التيه وافتقاد اليقين طاولت إيمانه بهويته وقد غرقت أعرق عواصمه عبر التاريخ، وبينها دمشق الشام وحلب الشهباء وبغداد هارون الرشيد وصنعاء اليمن، من دون أن ننسى الموصل، معقل العروبة والثوار، فى دماء أهلها عبر الحروب التى انخرطت فيها عصابات الإرهاب بالشعار الإسلامى، مستدرجة الدول الكبرى للعودة – عسكريا – إلى المنطقة تحت لافتة النجدة بالاضطرار، غالبا، كما فى سوريا، أو باستغلال الحاجة إلى دولة قادرة، كما فى العراق.

وفى حين تغيب مصر لانشغالها بأزماتها الداخلية، تتصدر دول الخليج العربى بالقيادة السعودية «المشهد الحربى»، إما مباشرة كما الحال فى اليمن، وإما بشكل غير مباشر ولكنه مؤثر كما الحال فى سوريا وإلى حد ما فى العراق..

***

وحده لبنان استطاع أن يجد لنفسه مخرجا من أزمته السياسية التى استعصى حلها على طبقته السياسية طوال عامين ونصف العام، كلفت اللبنانيين بعض استقرارهم الاقتصادى والأمنى.. وهكذا، وفى لحظة قدرية، أمكن للمجلس النيابى، الممدد لنفسه والمغلق منذ دهر، أن يفتح أبوابه، وأن يتلاقى فيه النواب الذين غابوا عنه طويلا، جميعهم وأن ينجحوا، أخيرا، فى انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

وإلى ما قبل الحرب فى سوريا وعليها، كانت لدمشق كلمتها المؤثرة جدا فى لبنان، دولة وقوى سياسية وحركة اقتصادية، لا سيما بعد عقد الشراكة بينها وبين السعودية (منذ أيام الملك فهد وحتى أيام الملك عبدالله..) وهكذا حلتا معا – فعليا – محل مصر عبدالناصر، وإن كان قد ظل للغرب (الأمريكى أساسا مع دور رمزى لفرنسا) تأثيره الفاعل فى الحياة السياسية فى الوطن الصغير والجميل.

صار لمصر دور رمزى، أقرب إلى أن يكون معنويا.. بعد انشغالها بأوضاعها الداخلية، وتطلعها إلى السعودية وسائر دول الخليج لإعانتها فى أزمتها الاقتصادية الحادة، مرجئة الالتفات إلى دورها فى المشرق العربى (لبنان، سوريا، العراق.. وصولا إلى اليمن).

ها هو لبنان قد نجح قبل أيام، فى انتخاب رئيس للجمهورية، هو قائد الجيش السابق ميشال عون، الذى أسند إليه الرئيس الأسبق أمين الجميل ــ مكرها ــ وفى اليوم الأخير من ولايته التى فشل فى إقناع الرئيس الراحل حافظ الأسد بتمديدها – رئاسة حكومة عسكرية استقال نصف أعضائها فور إعلانها.

ولقد عاش لبنان، آنذاك، وضعا استثنائيا باهظ الكلفة، استمر لأكثر من سنة، انعقدت خلاله ثلاثة مؤتمرات للمصالحة الوطنية، توجت باتفاق الطائف، تحت رعاية سورية – سعودية، تحت مظلة أمريكية.. وقد تطلب تنفيذ هذا الاتفاق تدخلا عسكريا سوريا، انتهى، بإسقاط حكم الجنرال الذى استمر لأكثر من سنة وشهد «حربين» الأولى ضد «الشرعية» تحت المظلة السورية، والثانية ضد «القوات اللبنانية» بقيادة سمير جعجع. وفى نهاية الأمر انتهى العماد عون «منفيا» إلى فرنسا حيث عاش هناك عشر سنوات... بينما لم تتأخر المواجهة بين الشرعية الجديدة وجعجع.

على أن ذلك كله قد بات من الماضى.

فالجنرال عون الذى عاد من المنفى، بعد تبدل الأحوال فى لبنان وسوريا، لقى استقبالا جماهيريا حاشدا... ثم باشر العمل السياسى عبر «التيار الوطنى الحر»، وهى أقرب إلى جبهة سياسية عمادها تنظيم حزبى يلتف حوله مجموعة من الشخصيات التى ناصرته فى لبنان، وظلت وفية له فى منفاه، ثم حازبته وناصرته فى الانتخابات التى جعلت منه قطبا نيابيا وازنا وصاحب «حق شرعى» فى المشاركة فى الحكم عبر الوزارات المختلفة التى قامت حتى اليوم.

إذن فقد أنجز لبنان فصار له رئيسا لجمهوريته، هو الثالث عشر منذ استقلاله، هو القائد السابق للجيش، ورئيس الحكومة العسكرية السابق، و«المتمرد علـى الشرعية»، والمنفى والعائد منتصرا، ورئيس ثانى أكبر كتلة نيابية، والحليف الثابت والقوى منذ عشر سنوات طوال وحتى اليوم لـ «حزب الله».

ولقد تلاقى الأضداد على انتخابه.. أما بالنسبة إلى الدول فقد حظى بدعم أمريكى صامت ودعم إيرانى معلن ودعم سورى مضمر وإن كان معروفا، وتأييد فرنسى.. أما السعودية فقد رفعت، فجأة الفيتو عنه والذى كان بين أسبابه تحالفه مع «حزب الله» وكان الملك سلمان بن عبدالعزيز بين أوائل المهنئين.

وهكذا صار الجنرال المتمرد (سابقا) والزعيم الشعبى، العماد ميشال عون، رئيسا للجمهورية... وعاد إلى القصر الجمهورى رئيسا شرعيا منتخبــا.

يمكن الافتراض أن التأييد العلنى للسعودية (مع التهنئة الملكية) قد أكدت الدعم الأمريكى الذى جاء عبر برقية تهنئة من وزير الخارجية كيرى.. قبل أن تنهال سائر التهانى من مختلف الدول، شرقا وغربا، وكان أبرزها التهنئة التى تلقاها عبر اتصال من الرئيس السورى بشار الأسد.

يمكن هنا أن يطرح سؤالا شرعيا: هل هذا التلاقى الضمنى بين واشنطن وطهران هو حول لبنان وحده؟ أم هو مقدمة لتقاطعات أخرى فــى السياسة حول منطقتنا؟

ذلك ما ستكشفه التطورات العسكرية الخطيرة الجارية فى العراق (معركة الموصل بأبعادها جميع وتأثيراتها فى المنطقة، ومعركة حلب بكل تداعياتها المنطقية التى ستتجاوز، على الأرجح حدود سوريا.

***

يمكن إضافة اليمن إلى «مرحلة التهدئة» خصوصا وأن الحرب الظالمة والمكلفة، إنسانيا وعمرانيا واقتصاديا، قد أنهكت الاقتصاد السعودى، وتجاوزت حسابات دولة الإمارات فقررت الخروج منها، وتناقصت الحماسة القطرية... فى حين اكتفت الكويت، ومنذ البداية، بدور أرض التلاقى بين المقاتلين، تجمعهم مع الوسيط الموريتانى المكلف من طرف الأمم المتحدة من دون أن تتورط فى دور وساطته، ربما لأنها رأتها صعبة فاكتفت بأن تكون دار اللقاء.

فى أى حال، يبدو أن ثمة سياقاُ يربط بين هذه التطورات التى تشهدها أقطار المشرق العربى.

فلا التلاقى السحرى يعيد دهرا من القطيعة بين القوى السياسية متناقضة الشعارات بغير دلالات: من «حزب الله» إلى «التيار الوطنى الحر» بقيادة ميشال عون أصلا ثم صهره وزير الخارجية الحالى جبران باسيل، إلى تيار المستقبل بقيادة سعد الحريرى، إلى «القوات اللبنانية» بقيادة سمير جعجع، مع اكتفاء حركة «أمل» بقيادة رئيس مجلس النواب ومعها عدد وازن من النواب (ناهز الأربعين) أوراق بيضاء فى «الصندوق»، كأنه أقرب إلى ربط النزاع منه إلى المعارضة.

يمكن الإيجاز بالقول: إن هذا «الإنجاز» الذى كان يبدو مستحيلا فى لبنان قد يؤشر على تحولات مقبلة فى مواقف دول القرار وأساسا: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الروسى.

فإذا أضفنا إلى هذا التطورات العسكرية فى معركة تحرير الموصل من داعش «خليفته» البغدادى والتى تؤشر إلى اقتراب تحرير العاصمة الثانية للعراق، مع تزايد الاحتمالات عن إصرار سورى ــ روسى (أو بالعكس) على حسم معركة حلب، بأى ثمن تحت شعار فتح أبواب الحل السياسى للأزمة التى تعصف بسوريا منذ أكثر من خمس سنوات.. نكون أمام تطور خطير قد يسهم فى إعادة الخرائط، فى المشرق العربى، إلى أصولها الطبيعية.

وفى السياق نفسه، نكون أمام تطورات مهمة فى العلاقات بين دول ظلت مختلفة إلى حد القطيعة والتلويح بالحرب، وها هى تقترب من التلاقى عندنا، ولحسابها وليس لحسابنا وهى: الولايات المتحد الأمريكية، والاتحاد الروسى، والمملكة العربية السعودية وإيران.

هذا إذا كان ما حدث فى لبنان هو البداية وليس مجرد سنين ولا تكفى لأن نتوقع ربيعا فى الخريف العربى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved