الشركات العامة ومخاطر الطرح فى البورصة

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الخميس 9 نوفمبر 2017 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

يبدو أن التاريخ الاقتصادى يصر على أن يعيد نفسه كاملا غير منقوص. فالطبعة الأولى من برنامج «التثبيت الاقتصادى والتكيف الهيكلى» الذى طبقته السياسة الاقتصادية المصرية، بتوصية من صندوق النقد والبنك الدوليين، منذ ما يربوا على ربع قرن من الزمان، يعاد الآن بث الروح فى كل تفاصيلها الدقيقة، وتقديمها فى شكل طبعة جديدة، أكثر انتشارا وأعمق أثرا.
والحق، أنه عندما أعلن عن الطبعة الثانية من هذا البرنامج الاقتصادى «النيوليبرالى»، ذهبت توقعات أغلب المتخصصين فى الشأن الاقتصادى، إلى أن السياسة الاقتصادية ستكتفى بإجراءات التثبيت النقدى والمالى (تحرير سعر الصرف، وزيادة سعر الفائدة، وضغط الإنفاق الحالى والاستثمارى، وزيادة الضرائب على الاستهلاك)، ولن تقدم على اتخاذ إجراءات فى جانب التكيف الهيكلى. بمعنى آخر، فإنه لم يدر فى خلد هؤلاء المتخصصين أن هناك نية حكومية لبيع جزء من الأصول المملوكة للدولة تحت مسمى «الخصخصة»، والذى طبق بكثافة فى الطبعة الأولى من هذا البرنامج. ولكن سرعان ما ذهبت تلك التوقعات أدراج الرياح، بعدما أعلنت الحكومة عن نيتها لطرح جزء من شركات القطاع العام فى سوق الأوراق المالية. وهو ما يعنى ببساطة، أن هناك تكيفا هيكليا سيضاف للتثبيت الاقتصادى، لتكتمل بذلك مكونات الطبعة الجديدة من البرنامج المعاد إحياؤه.
ولكى نتمكن من تقييم هذا التوجه بموضوعية، يتعين تحليل دوافعه ومسبباته المعلنة من قبل الحكومة. فبالرغم من تحقيق بعض شركات القطاع العام وشركات قطاع الأعمال العام أرباحًا سنوية (أبرزها شركات البترول وشركات التأمين)، إلا أن هناك شركات أخرى، كنتيجة لانخفاض الإنتاجية، تتراكم فيها الخسائر عام بعد آخر، للدرجة التى قد تلتهم قيمة تلك الخسائر رأس المال بكامله (أبرزها شركات الغزل والنسيج). وتدفع تلك الحالة الحكومة لمحاولة التصدى لهذه الخسائر، بإصلاح الإدارة تارة، وبالبيع والتصفية تارة أخرى. كما أن الحاجة لتدعيم سوقى الإصدار والتداول فى بورصة الأوراق المالية بأسهم جديدة، تمثل سببا إضافيا يدفعها للتفكير فى بيع هذه الأصول.
على أننا نرى أن هذه الدوافع لا تفسر وحدها التوجه الحكومى ناحية الخصخصة. وإلا فكيف نفسر نيتها لطرح حصص متتابعة من الشركات التى تحقق أرباحًا صافية، كشركات البترول؟ أو كيف تبدو لنا العلاقة بين هذا التوجه وبين حاجة الحكومة الملحة لتمويل عجزها المالى المزمن؟ أو كيف نربط بين النمو الحاصل فى المديونية الخارجية، وبين هذا التوجه؟! وعليه، لا يجوز أن نعزل هذا التوجه عن باقى المتغيرات الاقتصادية المصاحبة له، وخصوصا حالتى العجز والمديونية الحكوميتين.
****
قد يجادل البعض بالقول بأنه ما دام التخلى عن ملكية تلك الأصول سيتم عبر طرحها فى سوق الأوراق المالية المصرية، فهو إلى جانب تحفيزه لهذه السوق، فإنه سيمثل ضمانة كافية لزيادة العوائد المتحققة من هذا الطرح للحكومة، وسيزيد من معايير «الحوكمة» فى الشركة التى سيطرح جزء من رأسمالها. كما أن هذه «الخصخصة الجزئية» ستقلل وفق هذا المنظور، من المخاطر والمشكلات التى صاحبت «الخصخصة الكلية» فى الطبعة الأولى من هذا البرنامج. غير أننا نرى أن العكس تماما هو الصحيح. فالتخلى عن حصة من ملكية الشركات المزمع بيعها، يمكنه أن يزيد من فرص تحقق المخاطر التالية:
ــ إن إجراءات الطرح فى سوق الأوراق المالية وفق «القيمة العادلة» ليست ضمانة كافية لحصول الحكومة على المقابل العادل للحصص المباعة. وقد يعزو ذلك إما لانخفاض جودة المناهج والأساليب المستخدمة فى تحديد القيمة العادلة، فضلا عن ندرة الخبرات الضرورية للتقييم، وإما لوجود مشكلات مؤقتة وطارئة فى الوضع المالى للشركات المطروحة للبيع، تقلل من هذه القيمة العادلة.
ــ وإذا افترضنا جدلا إمكانية الوصول للقيمة العادلة للحصص المباعة، فمن بديهيات علم المالية العامة أن الحكومة ستحصل مرة واحدة على تدفق رأسمالى نظير عملية البيع، متمثل فى هذه القيمة العادلة. ولكنها ستفقد، فى ذات الوقت، موردًا ماليًا مستقرًا ومنتظمًا، متمثلا فى حصتها السنوية من أرباح هذه الشركات. تلك الحصة التى تعتبر مصدرا مهما للإيرادات العامة الحكومية.
ــ على أن المخاطر المتوقعة من احتمال تملك الأجانب تحديدا لهذه الحصص، تعلو فى رأينا على ما سبق ذكره من مخاطر. فهى لن تتسبب فى تحويل العوائد التى كانت تحصلها ميزانية الدولة من الشركات للخارج وتضغط من ثم على موازنة النقد الأجنبى فحسب، بل ستزيد مخاطر إعادة سيطرة رأس المال على الأصول الوطنية الاستراتيجية، وبما يمكنها من إعادة تشغيلها بما يحقق مصلحتها الربحية، والتى قد تتفق أو تختلف مع المصلحة التنموية الوطنية.
ــ وعلى هدى من النقطة السابقة، فإن التدفقات الرأسمالية للأجانب فى سوق الأوراق المالية لشراء حصص تلك الشركات، لن تمثل فى هذه الحالة إضافة صافية للأصول الإنتاجية المحلية، ولن تعتبر بمثابة استثمارات أجنبية ناقلة للتكنولوجيا، والتى يؤمن الجميع بضرورة تشجيعها وتحفيزها للتوطن فى الاقتصاد المصرى. ولكنها ستمثل عملية حسابية رأسمالية بسيطة، تنتقل على إثرها ملكية الحصص الرأسمالية للشركات المباعة من الحكومة للأجانب.
وإذا أضفنا إلى المخاطر السابقة أنه من المتوقع استخدام حصيلة تلك الطروحات فى خدمة المديونية الخارجية، أو تمويل العجز الحكومى، فإن ذلك يقلل من الرشادة الاقتصادية لبرنامج التكيف الهيكلى ككل. وليس فى ذلك عجب، لأننا سنكون بصدد أسلوب تمويلى معكوس، تستخدم فيه مصادر تمويلية حكومية غير متجددة لتمويل نفقات حكومية متجددة ومتزايدة.
****
وأمام هذه المخاطر المتوقعة، وفى ضوء اعتقادنا بأن عملية الطرح مرتبطة، بشكل أو بآخر، بضغوط صندوق النقد والبنك الدوليين لتقليص النشاط الحكومى الإنتاجى، لابد لنا من طرح تصور بديل للتكيف الهيكلى، يحافظ على الأصول الإنتاجية الوطنية، ويساعد الحكومة، مع مضى الوقت، على إعادة هيكلة شركاتها الإنتاجية المتعثرة.
ورغم صعوبة مشكلات الإنتاجية فى الشركات العامة عموما، إلا أن التطوير الشامل لأنظمة الحوافز بها، وتعديل أنظمة الإدارة ومسئوليات مجالس الإدارات، وتفعيل أنظمة رقابة الجمعيات العمومية والهيئات الرقابية المالية على أنشطتها، يمثل، فى رأينا، الحل الأمثل لتطوير الإنتاجية الكلية. فحتى لو تمت الخصخصة الجزئية التى يحمل لواءها أنصار برنامج التكيف الهيكلى، ولم تتطور تلك الأنظمة، ستظل الإنتاجية الكلية على حالها، أو قد تمعن فى التراجع.
وفيما يخص الشركات المتعثرة، والتى فى حاجه ماسة لتمويل الإصلاح المالى والتكنولوجى والتسويقى، فإن حث البنوك على تحويل مديونياتها المتراكمة على تلك الشركات إلى حصص فى رأس المال، وتحرير جانب من أصول هذه الشركات غير المرتبطة بالنشاط (الأراضى الفضاء) لتمويل شراء التكنولوجيا المتطورة، ودعم الحكومة والجامعات ومراكز الأبحاث الوطنية لأنشطة التسويق المحلى والخارجى لها، يمكن أن يساهم فى تطوير هذه الشركات، ويساعدها على الخروج سريعا من مصيدة الخسائر بلا وجل وبلا عثرات، ودون أدنى حاجة لخصخصتها جزئيا أو كليا.
****
وأيا كان الأمر، فإن الفارق الأساسى بين ما ندعو إليه، وبين ما يدعو إليه برنامج «التكيف الهيكلى»، هو أن دعوتنا تنبع من إيماننا العميق بأن الشركات الوطنية تمثل، دون ريب، سندا قويا للحكومة فى توجيه دفة النشاط الاقتصادى، وفى تنمية مواردها المالية، بينما دعوته تنبع من رؤية تجارية محضة، وهى أن خصخصة هذه الشركات تمثل فرصة استثمارية مجزية يتعين اقتناصها!
أستاذ الاقتصاد المساعد، وعضو الهيئة العلمية بمعهد الإدارة العامة السعودى.
الاقتباس
بالرغم من تحقيق بعض شركات القطاع العام وشركات قطاع الأعمال العام أرباحًا سنوية (أبرزها شركات البترول وشركات التأمين)، إلا أن هناك شركات أخرى، كنتيجة لانخفاض الإنتاجية، تتراكم فيها الخسائر عام بعد آخر، للدرجة التى قد تلتهم قيمة تلك الخسائر رأس المال بكامله (أبرزها شركات الغزل والنسيج).

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved