«شمسى» و«مطر».. سرد المنافى والمقاومة بالكتابة

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: الجمعة 9 نوفمبر 2018 - 11:50 م بتوقيت القاهرة

أقرأ حاليا الترجمة العربية لرواية «نار الدار» للكاتبة البريطانية، باكستانية الأصل، كاملة شمسى.

لا أنسى أبدا اكتشافى لملحمتها الروائية الرائعة «الظلال المحترقة»؛ التى أستطيع القول ودون أى محاولة للتواضع أننى أول من أشاد بها، وكتب عنها فى اللغة العربية، بل إننى ربما كنت المصرى والعربى الوحيد الذى أجرى معها حوارا صحفيا نشر قبل نحو ست سنوات، ولم يلتفت إليه أحد (وربما حتى الآن)، وتكشف فيه عن أفكار شديدة الخصوبة والحيوية حول أعمالها وتجربتها الروائية بشكل عام.

بعد نحو عامين من صدور الترجمة العربية لروايتها «الظلال المحترقة» بدأت الرواية تحقق رواجا لافتا وانتبهت النخبة القارئة من الكتاب والروائيين إلى اسم كاملة شمسى التى لم يترجم لها سوى هذه الرواية و«نار الدار» التى صدرت مطلع العام الحالى!.

صارت عندى من أهم الكاتبات اللائى أحب كتابتهن وأنتظر صدور ترجمة أى رواية لها. شمسى كاتبة قديرة، محترفة، ساردة بارعة تمتلك رؤية كلية للفن والكتابة تتلخص فى «الكتابة مقاومة»، وتزامن قراءتى لها مع اكتشافى للروائى الليبى المغترب هشام مطر؛ كلاهما يعيشان فى بريطانيا، وكلاهما يكتبان باللغة الإنجليزية، وكلاهما تقريبا يتبنيان نفس المفهوم الإنسانى للكتابة باعتبارها مقاومة؛ مقاومة لكل أشكال القهر والعنف واللا إنسانى فى هذه الحياة.

ووجدتنى ــ دون تعمد ــ أقرأ أعمالهما باعتبار هذه الأعمال مشروعا سرديا يمكن مقاربته من مدخل مشترك، إنهما معا يطرحان سردا جماليا مقاوما للاستبداد والعنف والأنظمة الشمولية، بجدارة واقتدار.

فى روايتها الملحمية «الظلال المحترقة»، تقتفى شمسى أثر تاريخ عائلتين منذ الأيام الأخيرة للحرب العالمية الثانية فى اليابان، وقت كانت الهند على شفا التقسيم، حتى مطلع الثمانينيات فى باكستان، وفى أعقاب هجمات 11 سبتمبر فى نيويورك، وفى أفغانستان فى أعقاب حملة القصف الأمريكية التى أعقبت الهجمات. أما أجمل ما فى الرواية فهو حسها الإنسانى العابر للمكان والزمان، والأديان والجنسيات والعرقيات. من قلب الموت تولد الحياة، وأسوأ من الحروب المشتعلة، تلك الحروب الباردة التى تفرز البشر على أساس اللون أو اللغة أو العقيدة أو الجنسية، ولا شىء أهم من البشر على هذه الأرض.

أما الليبى هشام مطر الذى نال جوائز عالمية لا تعد وحقق نجاحا غير مسبوق بثلاثتيه الروائية؛ «فى بلد الرجال»، «اختفاء» (ترجمتا عن إلى العربية وصدرتا عن دار الشروق)، و«العودة» فيصور عبر سرده الإنسانى المرهف والمكثف واقعا أسود قاتما فى بلد رحب كامتداد صحرائه وطول سواحله «ليبيا»، لكنه محاصر بضيق الأفق ووأد الحريات وإشاعة الرعب، وأحداث كئيبة تعانيها أسرة ليبية يختفى عائلها تحت وطأة القمع والاستبداد، هكذا يصور مطر كيف تعيش ذكريات الحب فى بلد الرجال، ويرصد الحياة الليبية فى نهاية السبعينيات، خاصة القمع السياسى والاجتماعى فى هذا البلد.

القارئ المدقق لـ «فى بلد الرجال» لهشام مطر، لن يعدم صلات تربط بين شخصية الأب فى الرواية، وشخصية والد هشام مطر على الحقيقة، الذى كان أحد رجالات المعارضة البارزين للنظام الليبى تحت حكم القذافى، الذى لجأ إلى أسلوب الاختطاف والأسر، ليختفى والد هشام مطر من الحياة عام 1994 وينقطع أثره تماما، انطبع ذلك بوضوح ظاهر على ثلاثيته تلك.

الاثنان؛ كاملة شمسى، وهشام مطر، نشآ فى ظلال ديكتاتوريات قمعية قاسية؛ (هى نشأت فى ديكتاتورية ضياء الحق المهووسة بالرقابة والمنع والحجر، ومطر نشأ فى ديكتاتورية القذافى الموتورة)، والاثنان قاوما هذا الواقع الكئيب بالكتابة وبخلقهما لعوالم وشخوص متخيلة تمارس مهامها التخيلية ببراعة وتماسك. تتلاقى شمسى مع هشام مطر الذى جاءت رواياته، وبالأخص «فى بلد الرجال»، سردية بديعة لمن أمضى طفولته فى ظل ديكتاتورية أخرى لا تختلف فى كثير أو قليل عن ديكتاتورية ضياء الحق.

ما زالت كاملة شمسى قادرة على إمتاعى وإسعادى بسردها الذكى الجميل، وما زال هشام مطر قادرا على إبداع سرد جميل مؤثر وموجع. المجد دائما للكتابة الحلوة والحس الإنسانى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved