صفحات من مفكرتها

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 9 نوفمبر 2021 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

حوالى السادسة صباحا. رن التليفون مرة واحدة وانقطع. بعد دقيقتين رن مرة واحدة وانقطع. مرت خمس دقائق ورن للمرة الثالثة فاستجاب، ولكن فى صمت. من هناك جاء صوتها يقطر براءة مختلطة بشقاوة، أو يقطر شقاوة مختلطة ببراءة متمنية صباحا خيرا ومعتذرة عن الرنين المبكر. سألتْ تتأكد عن هوية المستجيب. تأكدت فاطمأنت. سألها مَنْ تكون ليطمئن هو الآخر فالصوت غير مألوف. قالت إنها تتحدث معه بتكليف من جدتها التى رحلت عن الدنيا قبل أسبوع وأضافت «ائتمنتى جدتى على ورقات معدودة كلفتنى انتزاعها من مفكرتها. طلبت منى الاتصال بك بعد مرور أسبوع على رحيلها. جعلتنى أكرر أمامها خطوات الاتصال وموعده وكلمة السر لتتأكد. قالت واثقة إنك سوف تستجيب رغم أنكما لم تتواصلا لحوالى ستين عاما إلا مرة واحدة بعد أن خرجت حضرتك، بالسلامة، من عملية جراحية خطيرة. اتصلت بك مستخدمة خطوات الاتصال ذاتها وعندما استجبت همست تحمد وتشكر. لم تترك لك رقما لهاتف ترد عليه ولم تكرر الاتصال.

«استدعتنى قبل أسبوع من يومنا هذا لتكلفنى بتسليمك رسالتها يدا بيد. سألتها، وأنا حفيدتها الأصغر المقربة إلى قلبها وحاملة أسرار حياتها، كيف ومن أين كل هذه الثقة فى رجل غبتما عن بعضكما طول هذه السنين. لن أنسى ما حييت مشهد دمعتين طفرتا من عينيها وسالتا على خديها، واستقرت إحداهما على شفتيها. مددت يدى أمسحها وأنا أطلب منها ألا تسعى لتجيب فالإجابة وصلت. سيدى هل تحدد لى موعدا أقابلك لأسلمك الورقات من مفكرة جدتى ولأشكر الرجل الذى أدخل إلى قلبها فى شبابهما سعادة عاشت معها حتى آخر يوم فى حياتها».
•••
وصلت فى الموعد. سلمته المظروف وجلست تنظر إليه وفى يدها فنجان الشاى. لم تجد كلمات كثيرة. جدتها وهذا الرجل الرائع الذى يقف أمامها وكل هذا الحب. تسأل نفسها السؤال الساذج. لماذا لم يتزوجا؟. هناك سر كبير لم تطلعها عليه جدتها رغم أنها اختارتها مستودعا لأسرارها. تصورت وهى جالسة أمامه أنها تحدثه. تصورت أنها تقول له، «ظلت جدتى إلى آخر كلمة سطرتها فى مفكرتها تذكرك بالحرف الأول من اسمك. سافر.. س.. بسلامة الله.. رجع.. س.. بحمد الله، رأيت.. س.. على التلفزيون أو على مائدة مع زوجته فى عرس، سمعته يخاطب مؤتمرا، قرأت مقالا كتبه.. س.. أظن أنه كان يقصدنى فى فقرة منه عن أيام شبابه التى هى أحلى أيام عمره كما وصفها وعمرى كما أصفها أنا».

.. قدرت وهى جالسة أمامه أن الفضول والشوق لابد وأنهما يحثانه على فتح المظروف فاستأذنت لتنصرف. ألمحت بكلمات مترددة وبتلعثم واضح أنها تتمنى لو استمعت ذات يوم إلى روايته عن ليلة النيل والقمر والمراكبى الأسمر وحبات الطماطم برائحة طمى النيل. أنهت الزيارة بإعلان أنها بهذه الزيارة اشتاقت إلى جدتها أيما اشتياق وتتمنى لو قضت وقتا أطول تستمع إلى الرجل الذى أحبته حبا عظيما. هل يمانع فى أن تتصل به فى فرصة قريبة ليأذن لها بزيارة ثانية. احتضنته وغادرت تاركة وراءها فضولا هائلا ومشاعر فياضة ورجلا تقدمت به السنون يمسك بورقات مال لونها إلى الاصفرار ويتأمل فى كلمات تكاد حروفها تتراقص ببهجة لا تنكرها عين لم تنم عن كلمة حب ولا تفوت على قلب ما زال ينبض به.
•••
جاء فى مطلع الورقات أن التليفون رن كعادته فى الصباح الباكر. «رن مرة ثم عاد يرن مرتين. ساد السكون لدقائق وفى أعقابها استجبت باندفاع وحنين. أحبها. أحب هذه اللحظات من كل صباح. انهض من فراشى مبكرا. أنهى واجباتى ثم أغير ثيابى وأرتب شعرى وأعجب بجمالى أمام المرآة وأهمس لنفسى همسات إطراء ورضاء، كلها فى انتظار أن أسمع صوته فى هذه المكالمة الصباحية. مكالمة اليوم اختلفت قليلا. طلب منى الموافقة على أن نخرج معا. فى نيته وتخطيطه أن نلتقى فى مكاننا المعتاد بعد الغروب. من هناك نتوجه نحو شاطئ النيل ناحية جاردن سيتى لنستقل قاربا يبحر بنا حتى وسط النهر. اتفق.. س.. مع المراكبى أن يتزود ببعض المثلجات الغازية أما نحن فسنمر على الفرن والبقال فى طريقنا إلى الشط لأختار بنفسى ما أريد.

رحلة مسائية فى عرض النيل. سمعنى ذات مرة وأنا أحلم هامسة بساعة زمان أقضيها مع من أحب على سطح النيل فى ضوء القمر. نأكل معا ونشرب ونتكلم بالهمس أو بغيره. غلبتنى الحماسة مع الحلم فتصورت ولم أخف عنه تصورى، أنه يمكن أن نتلامس بكل الأدب والاحترام.
وصلنا إلى حافة النهر عند النقطة المتفق عليها لنجد فى انتظارنا قاربا وعلى مقربة منه شاب صغير لم يتجاوز الخامسة عشرة. استقبلنا الشاب بوجه لفحته شمس جنوب الوادى وابتسامة لا أحلى منها، موروثة عن جدود أجادوا فن مطاردة الحزن، وجسد يافع شكلت تناسق عضلاته واستقامة ظهره مهنة التجديف ضد التيار. أمسك بيدى وأنا أعبر من البر إلى النهر. أشفقت عليه فاليد خشنة وجلدها يكاد يتشقق. لا شك أن المسكين أشفق بدوره على الإنسانة التى تعلقت بيده الممدودة لتمسك بيدها الناعمة، أشفق عليها من لمسات نسيم النيل وضوء القمر. رحب بنا ترحيبا دافئا وحقيقيا وعلى الفور زالت الفروق بيننا وبينه. وعدنا بأن يتوقف عن الكلام إذا شعر بحاجتنا إلى الاستمتاع بألحان السكون أو أن شعر هو نفسه بنشاز صوته وسط هذا السكون الخلاب. أسكننا مؤخرة القارب ومنحنا ظهره معظم الرحلة. تكلمنا همسا وعلنا. صار يدندن أغانى وأنغاما جنوبية حالمة. غاب عنا وقتا أو غبنا عنه. أفقنا على صوته يستأذن فى التوقف والرسو عند رأس جزيرة عرفناها فى تمشياتنا العاطفية بجزيرة المنيل الممتدة من قصر العينى حتى مقياس النيل فى الروضة.
•••
رأيناه ينزل من الفلوكة وفى يده أحبالها يجرها إلى البر. ربط حبلا من حبالها فى جذع شجيرة فصارت هذه الأخيرة تهتز مع كل موجة من موجات النيل قبل أن تضعف لتستقر بنعومة على أرض الشاطئ. وقف أمامنا على البر متحدثا إلى.. س.. وعلى كل حال لا أذكر أن نظره وقع على وجهى على امتداد الرحلة، أنا أعرف قسمات وجهه وأستطيع الاستدلال عليه من بين مائة شاب ولكنه لن يعرفنى إذا تصادف مرورى بطريقه فى اليوم التالى. قال «تأذنان لى بدقائق معدودة أزور خلالها جدتى المقيمة فى عشة على قطعة أرض فى هذه الجزيرة تزرعها مع عائلة ابنتها المتزوجة من فلاح مهاجر من الدلتا». جدتى تحب السينالكو لذلك أطمع فى أن تسمحا لى باستعارة واحدة من مؤن الرحلة هدية منكما لها. رحبنا على الفور بل وزدنا هديتنا بقطع من حلوى الشوكولا والقشطة التى تزودنا بها عندما وقفنا بالفرن. التفت وراءه، بعد أن خطا خطوتين بعيدا عن القارب ليطمئننا أن لا غريب يقترب من هذه الجزيرة أو يرسو على شواطئها فالخفراء والكلاب يحرسونها ولا يسمحون باقتراب من يفكر فى تعكير صفوها أو يسرق طماطمها. اطمئنا واستمتعا بالهدوء والأمان. نحمد الله على صفاء السماء وجلاء ضوء القمر ولن أغيب طويلا عنكما فى كل حال.

توغل المراكبى الشاب فى غياهب الجزيرة حتى غاب عن أنظارنا وتوقفت الكلاب عن النباح، واحد منها على الأقل ظل يعود بين الفينة والأخرى كأنه يطمئن علينا. هب علينا السكون مضاعفا ولذيذا. لم أعرف قبل هذه الليلة أن للسكون طعما، وأنه لذيذ. لم أعرف قبل هذه الليلة أن الحب يتجدد من تلقاء نفسه ولا يتطلب لتجديده طاقة أو نوايا. تجدد حبنا الليلة، حتى إنه مد يدا يمسح بها على شعرى لعلها كانت أول مرة. وبلهفة لا أعتذر عنها أمسكت بأصابعه أقبلها. هذه بالتأكيد كانت أول مرة. اقترب منى فاقتربت. أغمض عينيه. تخيلت ما هو آت ولكنى لم أغمض عينىَّ، لم أكن لأترك فرصة كهذه تضيع دون أن أشاهد بكل جوارحى تفاصيلها وأشهد عليها. قبلنى قبلة طويلة. لم أنسحب. لم أدفعه بل جذبته إلى حضن غاب فيه بينما كانت ضربات قلبه وقلبى تكاد تتجاوز حدود قاربنا إلى أسماع المراكبى وعائلته فى قلب الجزيرة.
•••
من بعيد جاءنا صوت صديقنا المراكبى يغنى بصوت عالٍ وجميل. تنبهنا إلى أنه لم ينفذ وعده بالعودة سريعا. تأخر كثيرا فى العودة. لم نعاتبه، كدنا نقفز إلى البر نحييه ونعانقه مكافأة له على التأخير. هذا الصغير يعرف عن الحب أكثر من كثيرين أكبر منه نقابلهم فى كل مكان.
عدت إلى بيتنا. سمعت أمى تسألنى كما اعتادت أن تفعل، «أين كنت يا ابنتى»، أجبتها.. «كنت فى الجنة يا أمى».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved