غزة تحرّر أمريكا!!!

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 9 نوفمبر 2025 - 7:15 م بتوقيت القاهرة

ينتصر زهران ممدانى كعمدةٍ لنيويورك، فيضجّ العالم ولا تتوقف الاحتفالات ولا التحليلات أيضًا. ينغمس الكثيرون فى الانتصار الكبير لكونه مسلمًا، وآخرون لأنه من أصول آسيوية، وغيرهم لأنه مهاجر لم ينل الجنسية الأمريكية إلا منذ بضع سنين. أمّا العرب فقد أفرحتهم زوجته السورية، وراحوا «ينبشون» فى تاريخها من أول ولادتها حتى دراستها، وكيف التقت بزهران وتزوجا. وقد عكست كل هذه التقارير مدى التحول الذى حدث فى المجتمعات الأمريكية - وهى بالفعل مجتمعات، لا مجتمعًا واحدًا - خاصة فى جيل الشباب، وفى نيويورك تحديدًا، تلك المدينة التى فتحت أذرعها للرياح المتجددة القادمة من زوايا الكون، وكانت ملجأً وسكنًا لليبراليين والديمقراطيين واليساريين. ولا يحتاج المرء إلى كثيرٍ من البحث ليكتشف ذلك؛ فمجردُ المشى فى شوارعها، وزيارة قاعات الفنون والمتاحف وحفلات الجاز - ذاك الفن المعجون بالتمرد - تكشف عن تلك المدينة المختلفة بتنوعها.

• • •

إلا أنّ فوز ممدانى، كما قال بعض المحللين الفرحين جدّا، جاء انتصارًا لطرح الأسئلة التى كانت حتى قبل سنين قليلة غيرَ مسموحٍ بالتفكير فيها فى الولايات المتحدة. أمّا هو، فلم يكتفِ بالسؤال، بل وضع تصورًا للإجابات المنطقية، وقال ما يقوله الكثيرون - ربما فى الجلسات الخاصة والمقاهى والقاعات حيث يشتد صخب السؤال. تحدّث عن العدالة الاجتماعية، تلك التى وُضِعت فى براويز، وقيل عنها إنها مجرد أفكار لدى بعض الرومانسيين من الباحثين أو المثاليين. والحقُّ فى الصحة والسكن والتعليم للجميع هو الآخر كان ولا يزال همَّ الإنسان الأول فى كل مجتمع، وهو ما دمّرته الرأسمالية المتوحشة هناك، وما لبثت أن انتشرت كفكر «عملى» لبناء الدول والمجتمعات ورخائها، فابتُلى العالم كله بالمثال الأمريكى المغمس بتدمير البشر، مثل الطاعون أو الكوليرا قديمًا!

• • •

ولكن يبقى السؤال المهم، أو الأكثر إلحاحًا: «لماذا الآن؟» لماذا ينتصر ذاك المسلم المهاجر من أصول آسيوية الآن، فيما بقيت نيويورك منذ سنين طويلة حكرًا على رجال المال أو المموّلين من قبلهم، وكثيرٍ من الصهاينة والمنظمات الداعمة لهم طبعًا؟ ربما هى غزّة، التى لم تعد بقعةً جغرافية صغيرة تقاوم سنتين وإلى الدمار لا تتوقف؛ ربما هى غزّة التى شكّلت انكسارًا فى وعى العالم. فما حدث فى غزّة لم يكشف وحشية آلة الحرب فقط، بل عرّى منظومةً كاملة تحكم الكوكب: تحالفًا بين حكومات، وشركات سلاح، ومصارف، وإعلام، يكدّس الأرباح ويترك البشر عزّلًا أمام الجوع والتشرّد والمرض والعوز الدائم. كثرةٌ تناضل يوميا من أجل السكن والغذاء والدواء، وقلّةٌ تنعم بخيرات العالم كلّه من مناجم الذهب فى السودان وسائر إفريقيا إلى النفط فى الخليج والغاز وغيرها.

• • •

غزّة رفعت الغطاء عن الجميع، وعرّتهم كلّهم، وأولَهم النظام العنصرى وحربَ إبادته، وكذلك النظام الاقتصادى والسياسى العالمى الذى تهيمن عليه قلّة، هى نفسها التى حذّر منها كثير من الباحثين مثل سى. رايت ميلز، وإدوارد هيرمان، ونعوم تشومسكى، الذين قالوا إن شركات الأسلحة تدخل البيوت عن طريق صناعاتها الأخرى، ومنها الغسالات ومحطات التلفزة والإعلام. وهم من كشفوا منذ سنين أن شركة «جنرال إلكتريك» التى تحملها ثلاجتك فى المنزل، هى نفسها التى تصنع القنابل والأسلحة لتقتل جارك وكثيرًا من البشر فى مدن بعيدة.

• • •

كشفت غزّة عن وجه الصهيونية، وأرسلت بالأسئلة حتى وصلت إلى نيويورك، المدينة التى تُدار منها كثير من الشبكات المالية والإعلامية، وقيل عنها إنها معقل الصهاينة المتشددين المناصرين لدولة الاحتلال، ونموذجٌ للاقتصاد الحر. فجاء هذا الفوز ليكشف أنها أيضًا تعانى تصدّعًا فى الثقة بالنموذج النيوليبرالى الذى يموّل الحروب فى دول بعيدة ويفقر الناس فى أمريكا.

• • •

من غزّة سافرت الأسئلة الصعبة إلى نيويورك وغيرها، وهناك وقف كثيرون يرددون: كيف يمكن لدولةٍ تنفق المليارات لتسليح حليفٍ يحاصر مليونى فلسطينى، أن تعجز عن تأمين سقفٍ وعلاجٍ لمواطنيها؟ كيف يمكن لشركاتٍ تحقق أرباحًا خيالية من صفقات الأسلحة أن تُقدَّم كرموز نجاح، بينما عائلات بأكملها تنام على أرصفة الجادة الخامسة الفاخرة؟

• • •

غزّة حررت اللغة أيضًا، وصارت كلمات مثل «حرية» و«ديمقراطية» و«عدالة اجتماعية» ليست حكرًا على من يصفونهم بـ«الثورجية الحالمين» أو «الحمقى»، بل منحت سكان الكون الشجاعة لتسمية الأشياء بأسمائها: حربُ إبادة، اقتصادٌ جشع، نُخَبٌ تعقد الصفقات على جثث الفقراء. وفتحت أبواب الكون أمام الجيل زد ليفكر أنه بالإمكان أن يكون هناك عالمٌ أكثر نقاءً وكرامةً وحريةً ومساواةً.

• • •

ليست غزّة بطلةً رومانسية؛ هى جرحٌ مفتوح كشف كل شىء. ومن رحم هذا الجرح خرج سؤالٌ واحد بسيط يهزم كل دعايات القوة: إذا كان العالم قادرًا على تمويل الموت بهذا السخاء، فلماذا يعجز عن تمويل العدالة؟

كاتبة بحرينية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved