دليل القارئ الذكى لفهم الدستور الجديد

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 9 ديسمبر 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

من الذى كسب ومن الذى خسر فى عملية كتابة دستور جديد لمصر؟، هل يمكن أن تتيح قراءة ديباجته ومواده المائتين والسبع والأربعين فهما للعملية السياسية الكامنة وراءه ولعبة الأطراف المختلفة فى صياغته؟. إجراء هذه الحسابات هو أمر ضرورى لفهم نصوص الدستور، فوثيقة الدستور هى وثيقة سياسية بامتياز تعكس قدرة الأطراف المختلفة على أن تعكس فيه رؤاها للوطن ومصالحها.

ويمكن القول إن الأطراف التى اهتمت بعملية كتابة الدستور هى القوات المسلحة والقوى المدنية التى شاركت فى الموجة الثانية لثورة يناير والقوى الدينية على اختلافها سواء تمثلت بحزب النور أو الأزهر والكنائس المسيحية، وهى التى كانت تحركها على رغم تباين رؤاها اهتمامات مشتركة، بل ويمكن القول أن جماعة الإخوان المسلمين بثقلها فى المجتمع كانت بمثابة الطرف الغائب الذى يحسب حسابه سلبا أو إيجابا، كما شملت هذه الأطراف أصحاب المصالح الفئوية من هيئات قضائية ورياضيين ونوبيين وشباب.

•••

كل هذه الأطراف استخدمت ما لديها من حجج، ومن قدرة على ممارسة ضغوط على الأطراف الأخرى حتى تحصل على أقصى ما يمكنها الحصول عليه، وحتى تقلل بقدر الإمكان ما يطلب منها وما قد تضطر لقبوله من تنازلات.

أقوى هذه الأطراف بلا شك كان القوات المسلحة، ولم تكن قوتها نابعة من عدد ممثليها فى لجنة الخمسين، بل لعل العدد الحاضر فى لجنة الخمسين لم يكن هو المحدد الأساسى لقوة أى طرف، وإنما يمكن القول أن وزن كل طرف فى المجتمع السياسى هو الذى حدد قوته فى لجنة الخمسين، وكانت أهم محددات القوة هى الوجود فى دائرة صنع القرار الحكومى ثم القدرة على حشد الرأى العام وراء المواقف، وعلى هذا الأساس فإن القوات المسلحة كانت أقوى الأطراف تليها القوى الدينية، واكتسبت القوى المدنية وزنا بحسب تصور الأطراف الأخرى لمدى ميل القوات المسلحة لمواقفها، أما الجماعات الفئوية فقد اعتمدت قوتها على قدرتها على ممارسة الضغوط من خلال التعبئة والحشد خارج لجنة الخمسين.

لم تخرج أى من هذه القوى باستثناء القوات المسلحة، بمكسب صاف فى عملية كتابة الدستور. الطرف الذى قبل بتقديم أكبر قدر من التنازلات هو بكل تأكيد حزب النور، فهو الذى كان وراء إدخال العديد من المواد والصياغات فى دستور 2012، وخصوصا ما اعتبره مواد تتعلق بالهوية الإسلامية، وفى مقدمتها المادة 219 التى اقترحها واحد من قياداته، وهى التى أسقطت كلها فى الدستور الجديد، ولكنه أصر فى المقابل على إدراج تفسير مبادئ الشريعة الواردة فى المادة الثانية فى ديباجة الدستور وهو ما تحقق له، ومن ثم يمكنه أن يستخدم ذلك فى دعوة أنصاره للتصويت بنعم عند الاستفتاء على هذا الدستور. ولعل هذه التنازلات الكبيرة التى قبلها حزب النور تمكنه غالبا من الإفلات من تطبيق نص المادة 74 التى تحظر قيام الأحزاب الدينية عليه، وهو ما سينجح فيه على الأرجح ليقتصر إعمال هذه المادة على حزب الحرية والعدالة الذراع السياسية للإخوان المسلمين استنادا إلى أحكام قضائية متلاحقة.

•••

القوى الدينية الأخرى قبلت بتنازلات، ممثلو الأزهر اكتفوا بالإشارة للأزهر فى الدستور، ورضوا بإسقاط ضرورة استشارته فى كل ما يتعلق بالشريعة كما جاء فى دستور 2012، ولكن وقفت كل هذه القوى، حزب النور والأزهر والكنائس المسيحية ضد توسيع الإشارة على الحق فى الاحتكام للشرائع الخاصة فى مجال الأحوال الشخصية وانتخاب القيادات الروحية لتمتد إلى غير المسلمين عموما وليس فقط أتباع الديانات السماوية، ولكن دب الخلاف بين هذه القوى حول صيغة الإشارة إلى مدنية الدولة فى ديباجة الدستور، ووقفت الكنائس المسيحية منعزلة أمام إصرار القوى الدينية الأخرى على أن تجرد هذا المفهوم من كل أبعاده، فتحل عبارة الحكومة المدنية بدل عبارة الدولة المدنية، والفرق بينهما واسع.

ولقد تمتعت القوى المدنية داخل لجنة الخمسين بنفوذ يفوق بكثير وجودها فى المجتمع، وبدا ذلك واضحا فى تشكيل مكتب اللجنة ورئاسة لجانها المختلفة والتى اقتصرت تقريبا على من ينتمون إلى التيار المدنى عموما. ولكنها وأمام ضغوط من تيار محافظ فى اللجنة تمثله القوى الدينية ويميل له قسم كبير فى المجتمع، وخشية من معارضة شرسة تشنها جماعة الإخوان المسلمين على وثيقة الدستور عند الاستفتاء عليها رضخت القوى المدنية لإسقاط الإشارة لغير المسلمين فى المادة 3 واختفاء فكرة الدولة المدنية صراحة فى الدستور وإن كانت مواده تترجم عناصر هذه الدولة، كما قبلت بوضع قيود على ما يسمى بالفضاء المعلوماتى تحت دعاوى الأمن القومى (مادة 31)، كما لم تستطع مقاومة إصرار القوات المسلحة على الاحتفاظ بمكانة متميزة فى الدستور لا تتفق مع القواعد المعمول بها فى أى دولة ديمقراطية. ولكنها كسبت صياغة أدق وأقوى للحقوق المدنية والسياسية مقارنة بدستور 2012.

•••

تمكن أصحاب المصالح الفئوية من الحفاظ على بعض ما جاء من اعتراف بهذه المصالح فى دستور 2012، وخصوصا كل من ممثلى هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية، وإن لم يتمكنوا من توسيعها فى هذا الدستور رغم ضجة شديدة أثاروها وسببت أكبر المصاعب لرئيس لجنة الخمسين، واستعاد قضاة المحكمة الدستورية وضعهم السابق على دستور 2012، فلم يحدد الدستور عدد أعضاء هذه المحكمة، ولم يترك لجهات غير قضائية أن ترشح أعضاء لها. ولم يستطع ممثلو العمال والفلاحين الإحتفاظ بنسبة خمسين فى المائة من مقاعد مجلس النواب.

أما القوات المسلحة فهى الطرف الوحيد الذى خرج بمكسب صاف فى كتابة الدستور. لم تتنازل القوات المسلحة من خلال ممثلها فى اللجنة عن أى من مطالبها، فبقى لها الحق فى موازنة لا تخضع للنقاش فى مجلس النواب إذ تقدم له رقما واحدا، واستمرت لها سلطة محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية فى حالات محددة يترك بعضها المجال لتأويلات واسعة، وقيدت سلطة رئيس الجمهورية فى تعيين وزير الدفاع ليس فقط بضرورة كونه من الضباط العاملين ولكن باشتراط الحصول على موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة وذلك رغم أن الرئيس منتخب بأغلبية شعبية فى انتخابات يرجى أن تكون حرة ونزيهة. صحيح أن هذا القيد محدد بفترة مدتين رئاسيتين، ولكن هل يكون من السهل بعد ثمانى سنوات من العام القادم أن يسقط هذا القيد ولا يتحول إلى حق مكتسب للقوات المسلحة يحولها إلى مؤسسة تعلو على كل المؤسسات النمتخبة فى الدولة؟. وقد كان الأمل أن يخرج هذا الدستور معبرا عن آمال ثورة يناير أن تصبح مصر دولة مدنية بالمعنى الكامل لهذا المفهوم، وأن تقدر قيادة القوات المسلحة هذا الحلم النبيل. ولا شك أن ممثلى القوى المدنية قد عبروا عنه فى مداولات اللجنة، ولكن الأوزان النسبية لهذه الأطراف هى التى حسمت هذا الخلاف.

ولعله مما يثير التأمل أن أحد الأطراف الذى لم يكن ممثلا صراحة فى لجنة الخمسين وهو قيادات الحزب الوطنى التى لم تصدر بشأنها أحكام جنائية، قد خرج بمكسب صاف لم يكن يتصوره فقد أسقط الدستور الجديد حظر العمل السياسى على هذه القيادات لمدة عشر أعوام، وهو الحظر الذى نصت عليه المادة 232 من دستور 2012، وربما كان ذلك بسبب اعتراض المحكمة الدستورية سابقا على فكرة الحظر هذه.

•••

هذا الحساب للمكاسب والأرباح للأطراف المختلفة لا يلغى كون هذا الدستور هو أفضل ما يمكن للقوى المدنية أن تحصل عليه على ضوء أوزان أطراف العملية السياسية فى المجتمع فى الوقت الحاضر، فليست هى الأوسع تأييدا بين المواطنين، وهى المسئولة عن ضعفها النسبى فى المجتمع وانقساماتها، وإذا لم تكن وثيقة الدستور على مستوى طموحاتها، فلا يمكنها إلا أن تلوم نفسها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved