فى التضييق على الجمعيات الأهلية... وأشياء أخرى

أماني قنديل
أماني قنديل

آخر تحديث: الجمعة 9 ديسمبر 2016 - 10:46 م بتوقيت القاهرة

إذا كان قانون الجمعيات ــ الذى صدر منذ عدة أيام عن البرلمان ــ هو الذى شكل الدافع الرئيسى إلى كتابة هذا المقال، وإذا كانت توجهاتى إزاء هذا القانون، فى أغلبها سلبية تدفعنى إلى القول إننا إزاء قانون «تضييق» الجمعيات الأهلية، فإننى أريد أن أقول صراحة، إن هذا القانون هو أحدث حلقات، تضييق مساحة الشأن العام.. بل إنه ضمن مسلسل درامى لا نعرف عدد حلقاته، «لمضايقة المواطن»، وحصاره، وتضييق «صدره» و«كتم أنفاسه»، حتى تتراجع مشاركته، أو حتى اهتمامه بالشأن العام.

أشياء أخرى ــ بخلاف قانون الجمعيات ــ تقبض أنفاس المواطن، أبرزها الارتفاع الشديد فى أسعار كل شىء، وأى شىء، على أثر قرار التعويم وترك أسعار الدولار الأمريكى يتحرك وفقا للطلب والعرض.. ما يهمنى هنا هو غياب الرؤية البديلة القادرة على تنظيم أحوال «العباد».. الدواء وتوفير المستلزمات فى المستشفيات الحكومية لضمان الحق فى الحياة وغياب مراقبة وتنظيم وتوافر السلع الأساسية للمواطن، ورقابة الأسواق، والتضييق على منافذ الفساد.. إن «التضييق على المواطن» أسهل بكثير من التضييق على المتاجرين بحقوقه وحياته، والتضييق على الحق فى السفر، هو أيضا أسهل بكثير بعد أن أصبح قرار «الأمن» بمنع السفر، هو بديل / أو مكمل لقرار النائب العام.. والتضييق على حرية الرأى أيضا أسهل بكثير من إصدار قانون للصحافة والإعلام.. والتضييق فى تنفيذ أحكام أعلى سلطة قضائية لصالح المظلوم، أسهل كثيرا جدا من نصرة الحق (قضية عمرو الشوبكى).. وهكذا نشهد حلقات متتالية، من مسلسل درامى، يطيح بحقوق المواطن وبالمواطنة، دون أن نعلم إلى أين نتجه؟ وماذا نريد؟ ودون أن نسأل ماذا أنتم فاعلون؟

***

ونعود إلى قانون الجمعيات والبرلمان المصرى الذى شهد تصفيقا حادا للأعضاء، بعد الموافقة على القانون، ليعلن رئيس مجلس النواب «بأن هذه رسالة لكل العالم بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة وهذا المجلس متحد على قلب رجل واحد»! ويؤكد ائتلاف دعم مصر «أن مشروع قانون الجمعيات الأهلية، هو الذى قدمه الائتلاف وهدفه فى المقام الأول تنظيم وتسهيل عمل الجمعيات، وليس كما فهم خطأ التضييق أو وضع العراقيل على مثل هذه الجمعيات والمؤسسات».. (بيان الائتلاف فى جريدة الأهرام ٣٠/١١/٢٠١٦).

إذن رئيس مجلس النواب يفخر بأن «المجلس متحد على قلب رجل واحد»، وبيان ائتلاف دعم مصر يعلن أن «القانون للتنظيم وليس التضييق».. دعونا نتابع معا، بعض ما ورد فى قانون الجمعيات، الذى أعده ائتلاف دعم مصر (أو ائتلاف تضييق شرايين مصر كما أسميه)، خاصة أن وزارة التضامن الاجتماعى قدمت مشروعا آخر وافق عليه مجلس الوزراء، فى الأول من نوفمبر ٢٠١٦، ولم يعلم عنه أحد فى البرلمان.. وبعد عدة أيام فقط تعلن الصحف عن مناقشة مشروع قانون، وعلى وجه السرعة، فى البرلمان.. وهنا تستوقفنا عدة ملاحظات، يتعلق بعضها بالشكل والبعض الآخر بالمضمون.

أولى هذه الملاحظات تتعلق بعنصر المفاجأة، والسرية والكتمان فى إعداد مجلس النواب لهذا القانون فى مقابل مشروع القانون المقترح من جانب الحكومة، الأخير شارك فى إعداده ومناقشته فريق محترم من الخبراء والعاملين فى القطاع الأهلى... وبعد عدة شهور كان التوافق بين الجميع على منهجية تحقيق التوازن بين اعتبارات الأمن القومى ــ وكلنا نحترمها ونقدرها ــ وبين توسيع مساحة الحريات للمنظمات الأهلية، لكى تستمر فى خدماتها وأنشطتها لدعم المواطن وسد ثغرات أداء السياسة العامة.. يمتد ذلك إلى الصحة، وتنظيم الأسرة، والرعاية الاجتماعية.. وصولا إلى المنظمات الحقوقية، وضوابط التمويل الأجنبى. وبالمناسبة فإن عدد المنظمات الأهلية التى تتلقى تمويلا أجنبيا وفقا للبيانات الرسمية للدولة لا يزيد على 300 منظمة.. لقد كانت أولى المعلومات المتاحة عن القانون الذى قدمه ائتلاف دعم مصر. فى نهاية الأسبوع الأول من شهر نوفمبر، وبعد مناقشات لم تتخط أربعة أيام، تمت الموافقة عليه وإحالته إلى مجلس الدولة، الذى أقره بعد إضافة تعديلات بسيطة، والصياغة القانونية له.

العنصر الحاكم هنا لتقييم مشروع القانون المقدم من مجلس النواب، فى مقابل مشروع القانون المقدم من وزارة التضامن الاجتماعى (بعد موافقة مجلس النواب)، هو مدى تيسير إجراءات التسجيل، والأنشطة، وجدية «المراقبة الميسرة» للجمعيات الأهلية دون تعقيد الإجراءات.. وببساطة فإن المقارنة بين الاثنين هى لصالح مشروع قانون وزارة التضامن الاجتماعى. السؤال هنا، لماذا تعمد البرلمان (دون تسمية لأشخاص أو مواقع)، «إخفاء» مشروع قانون تم مناقشته مع مئات الجمعيات، ومع فريق من الخبراء ــ وأنا منهم ــ وإخراج البديل على هذا النحو؟..

***

الملاحظة الثانية: أن حجم الأموال التى تعمل بها الجمعيات الأهلية (٤٧٠٠٠ جمعية) يقدر بنحو ٦٠ مليار جنيه مصرى، وهى وفقا للقانون توجه للنفع العام، والجمعيات هى مبادرات أهلية لا تسعى إلى الربح. صحيح أن بعض الممارسات يشوبها فساد، كما هو الحال فى الحكومة وفى القطاع الخاص، إلا أن إنفاذ القانون، ومساواة الجميع أمام هذا القانون، هو «الحامى من استشراء الفساد».. لقد ذهب مشروع القانون الذى أحاله البرلمان إلى مجلس الدولة، بخضوع الجمعيات (ممثلة فى مجالس الإدارة)، للكسب غير المشروع.. صحيح أن مجلس الدولة لم يوافق على هذه المادة ــ والتى تعكس فكرة «أنت متهم إلى أن يثبت العكس» ــ إلا أن خروج مادة بقانون الجمعيات المقدم من البرلمان، هو صفعة للجميع، الفاسدين وغير الفاسدين، وهو «تدخل أمنى فى خصوصيات المواطنين»، وهو ما ذهب إليه المجلس القومى لحقوق الإنسان، فى ملاحظاته على مشروع قانون «ممثلى الشعب».. وأصبح البديل هو خضوع الجمعيات للجهاز المركزى للمحاسبات.

الملاحظة الثالثة: والتى قد تكمل السابقة، أن القانون الجديد يذهب إلى اشتراط إخطار الجهة الإدارية عند تلقى التبرعات أو جمعها من داخل مصر، وصدور الموافقة اللازمة لذلك وتلتزم الجهة الإدارية بإخطار «الجهاز القومى لتنظيم عمل المنظمات الأجنبية غير الحكومية» بذلك، ولا يجوز الصرف من تلك الأموال إلا بعد صدور الموافقة!

والأكثر من ذلك لا يجوز للجمعية قبول أموال نقدية تزيد قيمتها على عشرة آلاف جنيه مصرى (٥٠٠ دولار أمريكى تقريبا) إلا بموجب شيك بنكى.. بمعنى أنه إذا فكر أى مواطن فى التبرع لجمعية ــ من أموال الزكاة أو الصدقات ــ فعليه أن يلتزم بشيك بنكى، وأن تلتزم الجمعية بإبلاغ الجهة الإدارية والجهاز القومى حتى تتمكن من إنفاق هذا المبلغ!!

الملاحظة الرابعة: تتوقف أمام هذا الجهاز (الرجل الغامض)، فالجهاز إبداع جديد، صنع فى مصر فقط للتميز، يسمى «الجهاز القومى لتنظيم المنظمات الأجنبية غير الحكومية» يترأسه شخص بدرجة وزير وله معاونون، وله أن يفتح فروعا له فى كل المحافظات.. وعلى كل المنظمات الأجنبية والعربية غير الحكومية العاملة فى مصر ــ وعددها 77 فقط ــ إخطار هذا الجهاز بكل بياناتها وأنشطتها ومصادر تمويلها وبرامجها وبروتوكولات ومذكرات التعاون بينها وبين أى جهة فى مصر» وعلى النموذج المعد لذلك«.. يضاف إلى هذا«الإبداع المصرى» للمراقبة والتضييق على الجميع، أن أى منظمة أجنبية أو عربية، تفتح مكتب أو فرع فى مصر عليها أن تسدد 300.000 ( ثلاثمائة ألف جنيه مصرى) تودع فى صندوق دعم الجمعيات الأهلية!!

الدهشة هنا مصدرها «الجهاز القومى»، إضافة جديدة غير مسبوقة للأجهزة والمؤسسات المصرية، وهدر للموارد وإثراء للبيروقراطية، وما نطلق عليه «الدولة العميقة».. وعلى الجانب الآخر اكتفى مشروع وزارة التضامن الاجتماعى باقتراح «لجنة التنسيق» والتى تضم ممثلى وزارة الخارجية والتضامن الاجتماعى والعدل والتعاون الدولى، وأوكلت لها مهمة المراقبة ومتابعة النشاط.

***

الملاحظة الخامسة أن كل المنظمات التطوعية ملتزمة بسداد مبلغ ١٠٠٠٠ (عشرة آلاف جنيه مصرى) للحصول على ترخيص العمل، بما فى ذلك ٣٦٠٠ جمعية لدفن الموتى، ولها كل الاحترام والتقدير، وهى جمعيات لفعل الخير وتعتمد على فاعلى الخير.. قد يكون الباعث على ذلك انخفاض قيمة الجنيه المصرى، وضرورة تضييق صدر المواطن بالغلاء فى كل شىء حتى فى التطوع لدفن الموتى!! يضاف إلى ذلك أنه وفقا للقانون المقدم من البرلمان، فإن الجمعيات التى تمارس عملها وأنشطتها فى «المناطق الحدودية» يصدر بتحديدها قرار رئيس مجلس الوزراء للحصول على الترخيص، بعد أخذ رأى المحافظ المختص.. وهذه المادة تحمل شبهة تعارض مع نص المادة ٧٥ من الدستور، والتى تؤكد على الحق فى تأسيس جمعيات، والمساواة فى الحقوق.. كذلك فإن القانون لم يحدد هذه المناطق الحدودية، إذ يمكن أن يمتد الحظر إلى محافظة مرسى مطروح، والساحل الشمالى ومحافظات سيناء، وبورسعيد وغيرها.. لا يوجد ما يفيد تحديد المناطق الحدودية!

الملاحظة السادسة: أن قائمة المحظورات والتى تدفع السلطات إلى الحل أو توقيع عقاب على الجمعيات هى قائمة طويلة تضم ١٠ بنود، من بينها إجراء بحوث ميدانية واستطلاعات رأى، علما بأن إجراء هذه البحوث يكون ضروريا لاستشعار آراء الناس واحتياجاتهم، فى المنطقة المحلية التى تنشط فيها الجمعية، وهى أداة علمية نطالب بها الجمعيات للتعرف على الأولويات.. ويذهب القانون إلى ضرورة الحصول على «ترخيص من الجهة الإدارية» وكذلك «موافقة الجهاز» على الانتساب أو الانضمام لأى شبكة من الجمعيات أو المنظمات غير الحكومية الدولية والعربية.. وإذا كان إنشاء الجمعية بالإخطار فإن ممارسة نشاطها فى أى محافظة أخرى وتأسيس فرع لها يتطلب موافقة كتابية مسبقة من الوزير المختص... هذا وتتعدد القيود على الجمعيات من خلال المحكمة المختصة وبناء على طلب من الجهة الإدارية، فى ١١ حالة، منها ممارسة أنشطة لم ترد فى النظام الأساسى للجمعية (جمعية تقدم خدمات صحية مثلا للنساء وقامت بنشاط للتوعية، هو أمر مخالف)، كذلك الانتقال إلى مقر جديد دون إخطار الجهة الإدارية، أو إذا لم تقم ببرامج «جدية» لمدة عام (ما معايير الجدية؟).. فى مثل هذه الأمور وغيرها تتعرض الجمعية للحل. والأكثر من ذلك النص على عقوبات ضخمة ــ منها عقوبات جنائية ــ للمخالفين من المتطوعين لأى من أحكام القانون.. و«المغالاة فى العقوبات» أمر جديد غير مسبوق..

***

بإيجاز هذا التضييق على ممارسة العمل التطوعى، هو بمثابة إغلاق «شرايين التنفس» أمام المواطن للمشاركة فى العمل العام.. ولا يوجد أفضل من ختام هذا المقال، من حديث رئيس لجنة التضامن الاجتماعى بالبرلمان، والذى خرج منها هذا القانون (المصرى اليوم ٢/٢/٢٠١٣)، للتعبير عن التوجه الأمنى السائد يقول فيه: «هناك من يحصلون على أموال ويستخدمون الجمعيات للتربح وضرب الأمن القومى، وخلقوا حالة من الفوضى فى البلاد جراء هذه المخططات الخبيثة.. وكانت الجمعيات ستار لفكرة الفوضى الهدامة».
الحل إذن لمواجهة القلة الفاسدة التى أضرت بالبلد، كان هو هذا القانون لقتل الجميع، وغالبيتهم العظمى من الشرفاء...
إلى أين نحن ذاهبون؟

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved