عن هزلية «أين العرب.. أين المسلمون؟»

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 9 ديسمبر 2017 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

أتذكر مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى وقد كنت فى المرحلة الابتدائية من الدراسة، حيث كان السؤال الاستنكارى «أين العرب؟» مدويا فى وسائل الإعلام وفى الفضاء العام حيث خطب الجمعة الغاضبة والبيانات الحزبية المدوية وعناوين الصحف المنددة بالانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطينى. جاءت أوسلو وذهبت، واندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية فتكرر السؤال الاستنكارى وزاد عليه سؤال مندد بموقف المسلمين المتخادل. ولأن الاستنكار والتنديد والتخوين بضاعة رائجة، فقد أخذت كل الدول العربية حكومات وشعوب فى المزايدات على بعضها البعض مع اتهامات مبطنة أحيانا وصريحة فى أحيان أخرى بالخيانة والعمالة للغرب.

ما أشبه الليلة بالبارحة! الرئيس الأمريكى ترامب يعلن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس باعتبار الأخيرة عاصمة للدولة العبرية، فتنطلق نفس الأسئلة الاستنكارية المنددة، «أين العرب؟»،
«أين المسلمون؟»، نفس التخوينات ونفس الحناجر، ونفس المزايدات!

مشكلة هذه الأسئلة أنها تنطلق من مواقف أيدولوجية مهزومة! فالسؤال يفترض أنه هناك فاعل عربى موحد (حلم القومية العربية) منوط به تحرير الأراضى الفلسطينية، أو أن هناك فاعلا إسلاميا موحدا (حلم الخلافة الإسلامية) منوط به الانتصار للمسلمين ومقدساتهم فى فلسطين، وكلا الفرضين غير صحيح، فلا توجد دولة عربية قومية موحدة ولا توجد خلافة إسلامية راشدة أو غير راشدة! هناك دول قومية لكل منها مشاكل ومحددات وقيود ومن الطبيعى أن يتصرف صانع القرار فى كل دولة بحسب مصلحة دولته كما تراه النخبة المسيطرة هناك علما بأن الغالبية العظمى من الدول العربية لا تحكمها أنظمة ديمقراطية مسئولة أمام شعوبها وكذا هو الحال فى معظم الدول ذات الأغلبيات الإسلامية.

أما من يتصور أن منظمة التعاون الإسلامى، أو جامعة الدول العربية معنية بالإجابة على هذه الأسئلة، فهو واهم حقا لأن المنظمتين ليسا أكثر من أطر تنظيمية تنسيقية أقصى ما يمكن أن يصدر عنها هو تنسيق مبدأى فى المواقف الدبلوماسية ولا يمكن انتظار أكثر من هذا على الإطلاق! جامعة الدول العربية ليست أكثر من متحف تاريخى لمومياوات محنطة تمثل الدول العربية. الأمين العام لجامعة الدول العربية هو فى أفضل الأحوال متحدث ومنسق عام لهذه المؤسسة الضعيفة ولا يملك الكثير من الأوراق لاتخاذ أى مواقف مؤثرة. بدورها منظمة التعاون الإسلامى هى إطار ثقافى للتعاون وتبادل الزيارات بين الوفود الممثلة للدول ذات الأغلبيات المسلمة، أقصى ما يمكن أن تقوم به هو التنديد والاستنكار أو الانشغال بالصراع السنى الشيعى وكذا هو الحال لأمينها العام!.

***

الحقيقة أن السؤال الوحيد الصحيح والممكن بالفعل هو كيف يمكن للدول القومية المعنية بالقضية الفلسطينية أن تغير من معادلة القوة فتجبر الطرفين الإسرائيلى والأمريكى على التراجع عن مثل هذه القرارات الظالمة؟ هذا السؤال يتجاوز أحلام العروبة والخلافة إلى واقع العلاقات الدولية، لأنه يتجاوز مخاطبة الدول العربية والإسلامية (فى الواقع النخب المسيطرة فى هذه الدول)، إلى مخاطبة النخب المهيمنة والفاعلين السياسيين النافذين فى الدول القومية ذات التأثير عالميا وإقليميا. تارة بخطاب يعتمد على ترتيبات القانون الدولى والمنطمات الدولية (على محدودية تأثيرها)، وتارة بمخاطبة المنظمات الحقوقية والمنظمات الدولية غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان، وتارة أخرى (وهو الأهم)، باستخدام جماعات الضغط (اللوبى) للتأثير على عملية صناعة القرار فى هذه الدول المعنية، صحيح أن الأمر بهذه الطريقة قد يأخذ عقودا من الزمن ولكن هذا السؤال وتوقيتاته وأساليب تنفيذه أجدى ألف مرة من تلك الأسئلة عن العروبة والإسلام وهى الأسئلة المهزومة تاريخيا حتى لو كانت تخرج طاقة الغضب الكامنة أو تكسب صاحب الخطاب بعض الشعبية المؤقتة!.

***

هذا بالضبط ما فعلته إسرائيل منذ إنشائها فى 1948، أو لنكن أكثر دقة منذ ظهور الحركة الصهوينية فى أواخر القرن التاسع عشر وحتى اللحظة، سلسلة مكاسب متتالية استخدمت كل الأدوات المؤثرة كلا بحسب طبيعة الحقبة الدولية وهكذا حتى حققت ـ ومازالت ـ ما تريد بالضبط، فى مقابل ظواهر حنجورية عربية وإسلامية فارغة!.

إن أكبر خدمة للدولة العبرية ومحركاتها الصهيونية هو أن تكون القضية الفلسطينية حكرا على العرب والمسلمين سواء كنا نتكلم عن الحكومات أو الشعوب. فلا يعقل أن تتمكن أطراف ضعيفة إقليميا أو دوليا من تغيير قضية معتمدة بالأساس على موازين القوة الدولية! لا يمكن مخاطبة شعوب إسلامية وعربية هى فى معظمها لا تملك من أمرها شيئا وتعيش مطحونة فى تفاصيل الحياة بلا أى حقوق أو حريات لحل مشاكل الشعب الفلسطينى! هل يمكن للشعب المصرى أو اللبنانى أو العراقى أو الجزائرى أو اليمنى أو الليبى (مثلا) أن ينتصر لحقوق الشعب الفلسطينى وهى شعوب مطحونة بعضها بلا دول والآخر بلا حقوق وحريات والثالث بلا سيادة؟! كيف يمكن للشعب المالى أو التشادى أو الإيرانى أو البنغالى (؟) أن ينتصر للقضية الفلسطينية وهى شعوب منهكة بالأساس تارة من الفقر وتارة من الجهل وأخرى من الصراعات العرقية؟!

كفى هزلا ! الحقيقة أن مخاطبة الشعب الأمريكى أو الفرنسى أو حتى الصينى واليابانى قد تكون أكثر نفعا من مخاطبة الشعوب العربية والإسلامية قاطبة! التأثير على عملية صنع القرار فى فرنسا أو ألمانيا أو الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قد تأتى بنفع أسرع وأجدى من استجداء صناع القرار فى المملكة السعودية وتركيا وماليزيا وأندونسيا مجتمعين.

المضحك المبكى أن الخطب العروبية والإسلامية على السواء لا تهدف سوى إلى المزايدات وتسديد الحسابات التاريخية بين التيارين القومى والإسلامى، وكل ذلك يتم على حساب القضية الفلسطينية لكنه يشنف آذان المؤيدين فى الناحيتين فتبتلع القضية وتفشل يوما بعد آخر ولكن المهم هو إرضاء الجمهور هنا وهناك!.

***

ثم كيف يمكن للنخب القومية العروبية أن تنتصر لحقوق الشعب الفلسطينى وهى نخب فى معظمها مغرمة بالحكام السلطويين؟ كيف يمكن لهم الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطينى وقد سقطوا فى كل اختبارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان داخل دولهم؟ كيف يمكن للنخب الإسلامية أن تنتصر لقضية بتعقيد وتشابك القضية الفلسطينية وهى نخب فى معظمها مازال يبحث عن خليفة سلطوى يعيد مجد الأمة؟ كيف يمكن لهم نصرة شعب محتل وقد فشلوا وأفشلوا كل محاولات التغيير فى بلادهم؟

الخروج من وهم الدوائر العروبية والإسلامية حكومات وشعوب ونخب وكسر احتكارها للحديث باسم القضية الفلسطينية هى البداية الصحيحة لطريق طويل من أجل تمكين الشعب الفلسطينى من تقرير مصيره! التوقف عن مخاطبة العرب والمسلمين والتحسر على أمجاد الماضى ،ومخاطبة الإنسانية أو التيارات الحقوقية المعنية بالحقوق والحريات والتأثير على صناع القرار النافذين بدلا من ذلك هو الأسلوب الأجدى لعرض الحق الفلسطينى على شعوب العالم.

لاشك أن قرار ترامب ظالم وعنترى ومتهور، ولاشك أنه سيشعل المزيد من النيران فى المنطقة الملتهبة بطبيعتها، ولاشك أنه سيعرض الشعب الفلسطينى للمزيد من المعاناة والاستزاف والضحايا، لكن لا طائل من الأسئلة الهزلية للفاعلين السياسيين الأكثر هزلا، تدويل القضية الفلسطينية وترك القوى الدولية لتدفع أثمان عدم قدرتها على كبح جماح المقامرين الدوليين والسعى لبناء قوى للضغط فى مراكز صنع القرار الأكثر تأثيرا فى العالم هو السبيل الوحيد لنصرة القضية الفلسطينية فى هذا العالم الذى لا يعترف سوى بموازين القوى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved