وطـن بلا أسوار

أميمة كمال
أميمة كمال

آخر تحديث: الإثنين 10 يناير 2011 - 2:26 م بتوقيت القاهرة

 الحقيقة أنها سيرة عطرة تلك التى يحكى عنها الدكتور محمود عبدالفضيل، أستاذ الاقتصاد المرموق، فى كتابه الذى صدر منذ أيام تحت عنوان «سيرة جيل وأزمة وطن».


فيبدو أن حى السيدة زينب الذى خرج منه الدكتور عبدالفضيل، والذى كان الزعيم سعد زغلول نائبا عنه، وكتاب «فلنحطم الأغلال» لأحمد حسين زعيم حزب مصر الفتاة، الذى صادرته السلطات وهربه الطفل عبدالفضيل مع أهل الحى، وكذلك ناظر المدرسة (الأستاذ المتبولى) الذى ترك التلميذ عبدالفضيل يفوز بالمركز الأول فى السنة النهائية لشهادة الإعدادية، فى حين أن ابن الناظر كان يخوض صراعا ضاريا سنة بسنة على المركز الأول، والذى كان بإمكانه أن يضغط على المدرسين لتغيير النتيجة من أجل تهدئة خواطر ابنه. وربما أيضا صوت عم غريب بائع الجرائد أيام حرب فلسطين بصيحته الشهيرة «ياخراب بيت اليهود». واستاذه فى اللغة العربية فى مدرسته الثانوية (خليفة الجعلى) ذو الميول التقدمية واليسارية الذى كان صاحب اهتمامات أدبية وسياسية واسعة. واللذان ساهما معا فى إنشاء جمعية للمناظرات فى المدرسة. وأصدرا مجلة للمدرسة سماها «مدرستنا بلا أسوار». ربما الحى، ويمكن الناظر، وظنا يكون بائع الجرائد، وحتما مدرس اللغة العربية هم من شكلوا وعى التلميذ عبدالفضيل.


ولكن جاء زمن آخر ليشكل بقية سيرته، ذلك الزمن الذى يأتى فيه الزعيم عبدالناصر بحلته الرمادية إلى طلبة جامعة القاهرة، ويستطيع الطالب الجامعى عبدالفضيل أن يقف على بعد خطوات منه، وهو يلقى خطابا ينتقد فيه أخطاء القيادة المصرية فى سوريا، والتى كانت وراء انفصال الوحدة بين البلدين. وكأنه يقدم لشباب الوطن اعتذارا عما فعله رجاله.


ولم يكن غريبا على الزمن ان يكون الطالب الجامعى الناشط سياسيا هو ذاته الذى يجلس على قهوة أم كلثوم مع المتسلطنيين الذى يطربون لسماع صوتها، ولا أن يكون من القراء النهمين للكتب التى تأتى من بيروت، ولا تلك التى تخرجها دار الطليعة ودار الآداب.


ويكتمل قسم آخر من سيرته عندما تخرج فى عام 1962 كواحد من الخمسة الأوائل من كلية التجارة جامعة القاهرة، وتلقى خطابا بتعيينه فى البنك الأهلى، إلا أنه ترك البنك بمجرد أن جاء خطاب تعيينه معيدا فى الكلية التى تخرج فيها. وكان استاذه الحقيقى هو الدكتور حسين عامر الذى كان يكره الأضواء والنفاق والفهلوة. وكانت الأربعون جنيها التى يتقضاها الدكتور عبدالفضيل كمعيد فى الجامعة كفيلة بأن تجعله يستقل التاكسى فى كل تنقلاته، ويأكل فى أفخم المطاعم بالقاهرة فى ذلك الوقت.


وعندما حمل الدكتور عبدالفضيل حاجياته مغادرا مصر فى عام 1965 قاصدا فرنسا للحصول على الدكتوراه وسط حسد من أصدقائه لأنه ذاهب إلى باريس بلد الغانية «إيرما لادوس».


كان قد ترك مصر وهى تعيش أزمتها بعد تداعيات حرب اليمن وعدم القدرة على تنفيذ الخطة الخمسية الثانية التى كانت تستهدف بالوصول إلى مضاعفة الدخل القومى فى مصر فى عشر سنوات. وكان يرى ان مصر تمر بأزمة اقتصادية. وكان شاهده على ذلك أن حكومة زكريا محيى الدين قد رفعت اسعار الأرز تعريفة أى 50 مليما فسماها الناس حكومة زكريا غلاء الدين.


ووجد الدكتور عبدالفضيل نفسه مرة أخرى منخرطا فى السياسة عندما تحمس للتحضير لأول مؤتمر للمبعوثين فى الإسكندرية عام 1966 والتى وجد فيها المبعوثون فرصة تاريخية لطرح أفكارهم النقدية على عبدالناصر. وتردد فى هذا المؤتمر بقوة مقولة «الطبقة الجديدة» العازلة من كبار البيروقراطية وكبار المقاولين وتجار الجملة فى القطاع الخاص. وكان حراكا ديمقراطيا واسعا قد اجتاح الطلبة المبعوثين، ولم يعد أحد قادرا على إرجاعهم إلى القمقم. وبالرغم مما أحدثته نكسة 1967 فإن الدكتور عبدالفضيل يتذكر شعوره عندما أعلن عبدالناصر قراره بالتنحى، فوجد رءوس الطلاب الأفارقة، وطلاب العالم الثالث منكسة.


وقتها عرف ما كان يمثله عبدالناصر كرمز للتحرر الوطنى لكل هؤلاء. وبعد تخرج الدكتور عبدالفضيل وعمله كخبير أبحاث فى قسم الاقتصاد التطبيقى بجامعة كمبردج لم تنقطع صلته بالوطن. وهو ما جعله يتخذ قرارا بالعودة فى 1977. إلا أن الكويت كانت محطة قبل عودته إلى مصر. شهد فيها بدايات عملية تعقيم المثقفين والمهنيين العرب فى ظل الحقبة النفطية مقارنة بالخمسينيات والستينيات. تلك الحقبة التى اكتسب فيها المثقفون قدرا كبيرا من الاحترام فى عيون بسطاء الناس، لأنهم أحسوا أنهم يدافعون عن مطالبهم وتطلعاتهم الوطنية.


وعاد الدكتور عبدالفضيل إلى التدريس فى جامعة القاهرة عام 1980 ليجد الحال وقد تبدلت وأصبح على أستاذ الجامعة الذى لا يلجأ إلى الإتجار فى الكتب الجامعية أن يتعيش على المكافآت، وأتعاب الأعمال الاستشارية التى تقتطع من وقت كتاباته العلمية. وكان عليه أن يشهد حقبة ظهور المراكز داخل الكليات التى تمول تمويلا أجنبيا. وهو ما جعل الأساتذة يحترفون نشاط الندوات، وأعمتهم أضواء الكاميرات وأنهت أمل الدكتور عبدالفضيل فى أن يكون هناك أى إمكانية لبناء مدارس فكرية متميزة فى مجالات العلوم الاجتماعية مثل ما يحدث فى أمريكا اللاتينية والهند.


واكثر ما صدم الدكتور عبدالفضيل بعد عودته هو ما سماه تأصل روح الفردية والرغبة فى الشهرة والتفرد بالمجد على حساب إنكار الذات. وهو ما أرجعه إلى تلك البيئة الثقافية التى برز فيها هذا الجيل الجديد والذى أصابهم بالغرور والتصرف بنوع من الطاووسية.


وإذا كان جيل الدكتور عبدالفضيل كافيا له أن يخرج مدرسا للغة العربية بمجلة يسميها «مدرستنا بلا أسوار» فلا يكفى هذا الجيل إلا أن يخرج لنا زعيما يدعو لوطن بلا أسوار.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved