التنوع الثقافى فى الوطن العربى مشكلة

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 10 يناير 2016 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

كم هو فادح الثمن الذى يدفعه الوطن العربى بالتعامل الخاطئ من جانب حكوماته وتياراته السياسية مع قضية التنوع الثقافى، فبدلا من أن يصبح هذا التنوع مصدرا للإثراء والاستفادة من تعدد المهارات وأنماط السلوك صار هذا التنوع سببا للتوتر فى العلاقات بين أبناء الوطن الواحد، بل وتفجر فى اعتداءات متبادلة أفضت إلى حروب أهلية نتج عنها انقسام بلد إلى دولتين، ويكاد نفس المصير ينتظر فى القريب العاجل دولة أو دولا أخرى يغيب عنها هذا التعايش السلمى بين أعراق ونحل وملل.

لم تكن هذه الخاطرة التى مرت فى ذهن الكاتب هذا الأسبوع وليدة تأمل فى الماضى السحيق للوطن العربى، ولكن استدعتها إلى ذاكرته المظاهرات التى انطلقت فى المملكة العربية السعودية والبحرين ولبنان احتجاجا على إعدام الداعية الشيعى نمر باقر النمر. طبعا ليس فى ذلك ما يدعو للدهشة، ولا فى الاعتداء على السفارة السعودية فى طهران من جانب جماعات تنصلت من المسئولية عنها الحكومة الإيرانية، فمن ناحية مشاعر التضامن بين من يشتركون فى العرق أو الدين أو اللغة أو الأصل الإقليمى هى مشاعر أولية تكاد تكون غريزية، فمثل هذه الروابط تبدو لأصحابها كما لو كانت روابط دم، فأفرادها يتصورون أن القرابة بينهم تجعلهم أشبه بأعضاء عائلة واحدة، ومن ناحية أخرى فالتلاعب بهذه المشاعر من جانب حكومات وقوى سياسية غير صديقة هو واحد من أبجديات السياسة، وخصوصا فى الدول التى تتنافس على النفوذ أو الثروات فى إقليم لم تستقر العلاقات بين دوله على مبادئ القانون الدولى التى تقضى باحترام السيادة وعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى.
نعم، دفعنا كعرب ثمنا باهظا لتجاهلنا مجرد مناقشة الإطار السياسى للتنوع الثقافى فى بلادنا، وربما يذكر القارئ أن منظمى مؤتمر عن الأقليات فى الوطن العربى لم يتمكنوا من عقده فى القاهرة، ولا فى أى مدينة عربية أخرى فى سنة 1994، ولجأوا إلى ليماسول بقبرص لأن كل الحكومات العربية كانت تخشى مجرد مناقشة هذه المسألة علنا، مثلما كان من الصعب تنظيم مؤتمر عن أزمة الديمقراطية فى الوطن العربى فى سنة 1983 فاضطر منظموه إلى عقده فى قبرص كذلك. وطبعا الصلة قوية بين المؤتمرين ففى غياب الديمقراطية يصعب الحديث عن أحد نتائجها، وهو انتهاك حقوق الأقليات. آثرت أن أطرح الموضوع فى إطار التنوع الثقافى الذى نعرفه فى وطننا العربى، لأن بعض أطراف هذا التنوع يرفضون توصيفهم بأنهم أقلية، حتى ولو كان المقصود بهذا التعبير من هم فى وضع الأقلية السياسية، أى تلك التى تنتهك حقوق أفرادها حتى ولو كانوا هم الأغلبية العددية فى مجتمعهم، ولكن الحديث عن التنوع الثقافى يتضمن احتمال أن يكون لهذا الوضع أبعاده الإيجابية، بينما يقطع مصطلح الأقلية بأن أفرادها يجدون أنفسهم فى موقف لا يشعرون فيه بالمساواة مع أفراد الأغلبية. لهذا التنوع جذوره فى اختلاف اللغة أو الدين أو الطائفة أو التوطن الجغرافى، كما قد يقترن بأصول عرقية متباينة، ومن ثم تجتمع الخصائص البدنية المتوارثة مع اختلافات فى القيم والعقائد والتقاليد.
***
رفضت كل التيارات الفكرية فى الوطن العربى أن يكون لهذا التنوع الثقافى آثاره السياسية، فالقوميون العرب، وفى مقدمتهم البعثيون والناصريون كانوا يطمحون للوحدة العربية الشاملة التى ينسى فيها العرب ليس فقط هذه الانتماءات الثقافية المتوارثة، ولكن يودعون دولهم القطرية للاندماج فى أمة عربية واحدة، وقفز الإسلاميون على القطر والقومية، وتجاهلوا مغزى الآية الكريمة فى القرآن. «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، ورفضت معظم فرقهم مفهوم المواطنة والذى يقضى بالتساوى فى الحقوق والواجبات بين كل من يحمل جنسية الدولة التى يعيش فيها، بل بادلت طائفة من المسلمين العرب طائفة مسلمة أخرى بالعداء، وضاق من يدعون أنهم بسبيلهم لإقامة دولة إسلامية بكل من يختلف معهم ومع تفسيرهم للإسلام سواء كان مسلما أو غير مسلم، عربيا أو غير عربى، ولم يخرج من بين تيارات الليبراليين واليساريين العرب اجتهادات جادة تأخذ هذا التنوع الثقافى فى الاعتبار، فلدى كل من هذه التيارات الحل الواحد الشامل لكل مشاغل الوطن العربى، الديمقراطية هى الحل لدى الأولين، والاشتراكية هى الحل لدى الآخرين.
وليت الأمر كان مجرد اختلافات فكرية بين أصحاب هذه التيارات، فعندما وصل دعاتها إلى سلطة الحكم، كانت ترجمة هذا الحكم بعيدة عن العروبة وعن الإسلام. كان حكم البعث فى سوريا والعراق طائفيا بامتياز لصالح العلويين فى بلد ولصالح التكريتيين فى بلد آخر، وفى الفترة القصيرة التى تولى فيها الإخوان المسلمون حكم مصر لم تسلم الكنائس المسيحية من الاعتداء، وفرض أنصارهم على القرى المسيحية فى الصعيد ألا يخرج أبناؤها للإدلاء بأصواتهم فى الانتخابات العامة. وماذا كانت نتيجة هذا الحكم الطائفى الذى يتدثر بشعارات العروبة أو الإسلام ؟. عرف كل من السودان والعراق حروبا أهلية انتهت بانقسام الأول إلى دولتين، وكان حكام السودان قد رفعوا شعارات الليبرالية والقومية العربية والإسلام فى فترات متعاقبة، كما رفع حكام العراق شعار العروبة منذ آخر خمسينيات القرن الماضى، وانتهى الأمر بتحالف الأكراد العراقيين مع القوات الأمريكية التى غزت العراق فى 2003، ورحب شيعة العراق بصيغة المحاصصة الطائفية التى حولت كثرة من العراقيين إلى ميلشيات مسلحة يقاتل بعضها البعض بعد أن كان التزاوج والعيش المشترك هو القاعدة السائدة بين السنة والشيعة فى بلدهم. كما دفع لبنان ثمن التقاتل بين كل هذه التيارات من قومية وليبرالية وإسلامية ويسارية حاربت خلافاتها على أرضه فى حربين أهليتين كانتا المعلم البارز فى تاريخ دولته المستقلة. ولم يخل الأمر من توترات بين مكونات القطر الواحد فى دول عربية أخرى، تفجرت فى صراعات محلية محدودة فى بعضها مثل الجزائر ومصر، وفيما هو أقرب إلى ثورة شاملة فى البحرين، واستمرت ألما تخفيه الصدور فى دول أخرى.
***
لم يخل الأمر من الاعتراف بخطورة تجاهل حرمان بعض أبناء وبنات الوطن من حقوقهم المشروعة فى دول عربية أخرى اتخذت بعض الخطوات نحو التعامل الصحيح مع قضية التنوع الثقافى على أرضية المواطنة. فللأمازيغ أحزابهم فى المغرب والجزائر، وتتقدم الجزائر بالانتقال بالأمازيغية من لغة وطنية إلى لغة رسمية بحسب التعديلات المقترحة فى دستورها، وأصبح للمسيحيين فى مصر حصة مؤكدة فى مجلس النواب، وانتخبت الأغلبية المسلمة، فضلا عن ذلك اثنى عشر مسيحيا فى دوائر المقاعد الفردية، وتناولت أفلام سينمائية ومسلسلات تليفزيونية بعض أعمال روائية عن المسيحيين الأقباط كشخصيات مألوفة فى الواقع المصرى، وزار رئيس الدولة كاتدرائية الأقباط الأرثوذوكس للمرة الثانية لتهنئتهم بعيد الميلاد مع تعهد بأن يقوم الجيش بإعادة بناء ما تهدم من كنائسهم بفعل أعمال إرهابية.
ومع ذلك فما زالت معظم الدول العربية بعيدة عن التعامل مع قضية التنوع الثقافى على أرضية المواطنة أى التساوى فى الحقوق والممارسة بين كل من يحمل جنسية الدولة. طبعا غياب الديمقراطية يعنى أن حقوق المواطنة مهدرة لمعظم أبناء الوطن، ولكن عندما يكون هناك تمييز على أسس ثقافية ضد بعض الطوائف، يكون حجم الإهدار أكبر بالنسبة لها. استمرار مثل هذا الوضع يهدد ليس فقط الاستقرار السياسى فحسب بل بقاء الدولة فى حد ذاته ويفتح الباب للتدخل الأجنبى من قوى إقليمية ودولية، كما تشير لذلك حالات السودان والعراق، فضلا عن اليمن وليبيا ومظاهرات الاحتجاج على إعدام باقر النمر الأسبوع الماضى. والطريق للتعامل الصحيح مع الأبعاد السياسية للتنوع الثقافى واضح. الاعتراف أولا بالحقوق الثقافية لمن لا يشاركون حكام دولهم فى الانتماء الطائفى أو الدينى أو الجغرافى أو العرقى، ووقف التمييز فى القانون وفى الممارسات ضد بعض أبناء الوطن بل واتخاذ إجراءات للنهوض بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية إذا كانت قد تدهورت بسبب هذا التمييز فى الماضى، والتفكير فى تعزيز الحكم المحلى فى كل أرجاء الوطن والنظر فى الانتقال إلى صيغة فيدرالية إذا كان ذلك مطلبا تؤيده أغلبية بين المواطنين الذين أنكرت حقوقهم فى المواطنة فترة طويلة من الزمن. وعلينا أن نتساءل ماذا لو كان كل من صدام حسين وجعفر النميرى قد احترما مطلب الحكم الذاتى للأكراد فى العراق وأبناء الجنوب فى السودان؟ ألم يكن من شأن ذلك لو حدث تجنب البلدين ما جرى لهما من انقسام فيما بعد.
لا داعى لأن نواصل دفن رءوسنا فى الرمال. وبداية الطريق الصحيح أن نعترف بشجاعة بأن لدينا فى معظم الدول العربية مشكلة فيما يتعلق بالأبعاد السياسية للتنوع الثقافى.

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ــ مدير شركاء التنمية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved