ماذا أضاف ربيع الثانى على الأول؟!

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 10 يناير 2020 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

ترى ما الذى تعلمه الربيع الثانى من الأول؟! وهل أضاف إليه جديدًا؟
تشهد منطقتنا موجات من الربيع العربى، تتوالى الواحدة منها بعد الأخرى (الموجة تجرى ورا الموجة) وقد تركزت الموجة الثانية فى السودان والجزائر والعراق ولبنان، تُرى ما الذى تعلمته الموجة الثانية من الأولى؟ وما الذى حاولت تجنبه؟
أرى أن هناك أربعة أمور تعلمتها الموجة الثانية ووضح بالفعل أنها قامت بتفاديها. من أهم ما تفادته الموجة الثانية هو عدم السماح للإسلام السياسى أن يتدخل فى ربيعهم، لقد ثبت تاريخيًا أن الإسلام السياسى قد أفسد معظم الموجة الأولى سواء فى مصر أو تونس، فقد قفز الإخوان على الثورات التى قامت وكانت النتيجة فى مصر أن وصل محمد مرسى لسدة الرئاسة مما أدى إلى الإحباط الشديد للشباب الذين خرجوا طالبين الحرية والعدالة والمساواة... إلخ، وكان الحل الوحيد أن يهرع الجيش لإنقاذ الموقف، وهو ما لم تكن الموجة الأولى تريده أو تتمناه فقد كانت الثورة أساسًا ضد عسكرة الحكم، لكن من حسن الحظ أن الذى جاء إلى السلطة، وهو كان الاختيار البديل للإخوان، استطاع بالفعل أن ينقذ السفينة من الغرق، وسار بها بحكمة شديدة وأعتقد أنه سيكون حريصًا على أن يسلم حكم مصر بعد نهاية المدة لمدنى. وهو ما لم يكن متاحًا لباقى البلدان التى انفجرت فيها ثورات الربيع العربى.. فها هو العراق يعانى من ركوب الإسلام السياسى للربيع الأول، فالشيعة من جانب والإخوان من جانب آخر، وأحداث الفوضى الأخيرة والاصطدام مع أمريكا بسبب سيطرة إيران على العراق، وفى كل مرة يظهر فيها رئيس الوزارء يقول شيئًا يتضح من كلماته مدى الضغوط المملاة عليه، فقد حمَّلته إيران وزر اغتيال قاسم السليمانى، مع أنه لا علاقة له بالموضوع أصلًا، لقد توقفت موجة الربيع العربى عند العراق، أما أكثر ما يؤلم هو موقف لبنان فلقد بدأت كأفضل ثورة، ومن المعروف أن لبنان يحتوى على أرقى شعب فى الوطن العربى لكن الذى أفسد الثورة حتى الآن أنه لا توجد حلول سريعة لوجود حسن نصر الله فهو يعمل لصالح إيران، وقد كشف عن وجهه بشكل واضح عندما هدد أمريكا بأنه سوف ينتقم لقاسم السليمانى، هذه التفاعلات السلبية والغريبة لا وجود لها فى أى وطن عربى أو غير عربى.
***
أما الأمر الثانى الذى تعلمه الربيع العربى الثانى فهو الإصرار على سلمية التظاهرات ولقد وضح أنهم اتفقوا قبل الخروج للثورة أن يتمسكوا بسلمية ثوراتهم، أو ما دعوه بالنضال السلمى واللاعنفى، وقد وضح أنه مُتفق عليه من جميع الذين خرجوا للثورة، فأحد العوامل التى أفسدت الثورة فى مصر هو العنف الذى استخدم من بعض شباب الثورة، لذلك أصرت الموجة الثانية فى الوطن العربى أنه مهما حدث فلن تتنازل عن السلمية فى شرح مطالبها، ومن الواضح أن هذه الموجة استفادت من الموجة السابقة لها، ورأت بأم عينيها كيف انهارت فى الموجة الأولى ثورة اليمن وليبيا وسوريا بعد أن فُرض عليها خيار العنف، ولقد حاول البعض جرجرة قيادات الموجة الثانية للربيع للعنف من أجهزة سلطوية وأمنية لكنهم ــ وللعجب تماسكوا بشدة ــ وهذا يوضح بجلاء سر قوتهم فى علاقتهم بعضهم ببعض، وسمعت من إخوة لبنانيين كيف كان الضغط الشديد عليهم ليلجأوا للعنف من خلال استقطاب بعض المتظاهرين الذين يشعرون بالتهميش وليسوا فى الصورة، ولكن كل هذا فشل بسبب سرعة القيادات فى احتواء مثل هذه المحاولات، والتى كانت تأتى بوضوح من الأجهزة الأمنية أو من الجهات الطائفية، ومن أروع الصور التى حدثت بهذا الشأن موقف السودانيين حيث اختاروا الموقف السلمى للرد على المجازر البشعة التى حاول من خلالها أنصار البشير وأتباعه استثارتهم بها وجرهم إلى لغة الانتقام والثأر، وهو نفس ما يحدث فى العراق.
أما الأمر الثالث الذى رفضته الموجة الثانية من الربيع العربى هو رفض التدخل الخارجى فقد حاولت دول كبرى أن تضع لها موطئ لقدم بحجة حماية الثورة ومعاونتها فى الاستمرار وعدم التوقف، لكن الثوار أصروا ألا يتنازلوا عن التمسك بالبعد الوطنى، لقد وضعوا نصب أعينهم ألا يطلبوا أى تدخل عسكرى خارجى يكسر أنف الحكومات التى ثاروا ضدها ولم تتجاوب بل قمعت الثورة مثل ما حدث فى ليبيا التى انهارت وضاعت ثورتها من تدخل أمريكى وهيئة الأمم المتحدة التى قسمت البلاد إلى نصفين بعد التدخل الغربى، وحاليا هناك التدخل التركى الذى يحاول أردوغان أن يفعله واتفاقه مع السَّراج وإرسال جنود إلى ليبيا... وأكبر مثال يمكن تقديمه لفشل هذا الأسلوب هى سوريا التى تدخل فيها الروس والإيرانيون والأمريكان والإسرائيليون... إلخ. لقد صارت سوريا مسرحًا للصراعات الخارجية، وقد ظن الثوار أن تدخل روسيا من ناحية وإيران من ناحية أخرى سيكون لصالح الثورة، لكن ما حدث عكس ذلك تمامًا حيث ثبتوا النظام القديم. ومن روعة الموجة الثانية للثورات الربيعية العربية أنها جاءت عابرة للإثنيات والأديان والطوائف، وليس ذلك فقط بل جاءت تشدد على الهوية الوطنية الجامعة لكل أطياف الشعب رأسيًا وأفقيًا، وبقدر ما كانت الأديان فى الشرق الأوسط عامل تفرقة بين أبناء الشعب الواحد، وقد استغلها الاستعمار أفضل استغلال بقدر ما وضح مدى تعلم الثوار من مثل هذه الدعاوى والتى تعمل على التفرقة بين سنى وشيعى ومسلم ومسيحى... إلخ. ولقد لاحظنا غياب نغمة الدين الفاقعة وعلو نغمة معاناة الشعب والقهر والفقر والحرمان، لقد أعطت هذه الشعوب درسًا قاسيًا للحكام المغامرين الذين وصلوا لسدة الحكم لأنهم ادعوا التدين وكان تدينهم ظاهرًا فى الشكل مثل البشير ومرسى وغيرهم وإذ بالشعوب تترفع على أولئك الذين يتمسحون بالدين للحكم وقد فوتوا الفرصة عليهم، ولقد وضح بعد ذلك فساد أولئك المتنطعين بالدين.
بل أيضا جاءت هذه الثورة عابرة للقوى السياسية والأحزاب على اختلاف توجهاتها، فقد غابت عن هذه الموجة ما اصطنعه الحكام المستبدون، من خطوط واهية تفصل بين الأمازيغ والعرب فى الجزائر، وبين الأكراد والعرب فى العراق، وبين مختلف مكونات المجتمع القومية أو الدينية أو الطائفية فى السودان ولبنان والعراق، ومن أروع ما حدث بهذا الشأن أنه لأول مرة فى التاريخ بعد ثورات الجيوش فى منطقتنا فى الأربعينيات والخمسينيات حكمت قيادات مدنية مثقفة مثل حمدوك فى السودان وآبى أحمد فى إثيوبيا. هذا فضلًا عن أن هؤلاء لم يكونوا حزبيين، ومن عبقرية هذه الشعوب أنهم رفضوا مشاركة الأطراف السياسية العتيقة فى مسار التعبير ولو حتى بالمشورة. من أروع ما حدث ما دُعى بالمرحلة الانتقالية التى تقودها حكومة مستقلة تمامًا تقطع مع الماضى والتركيبة السياسية التقليدية القائمة.
***
إن أكثر ما يجعلنى ــ أنا شخصيًا ــ وغيرى الكثير نبتهج ونسعد هو دور المرأة الكبير فى هذه الثورات، ولقد تصدرت نساء من ربات البيوت والمهنيات وشابات من المدارس الصفوف، وأبرز هؤلاء ظهرن فى العراق وفى لبنان وتراهن وقد تصدرن المظاهرات ليكُنَّ حائط صد أخلاقى يقلل من العنف الذى يسود فى مثل هذه الظروف. ولنأخذ بعض الأمثلة كانت فى السودان «الكنداكة»، وتم خطف ناشطات فى مصر والعراق، وتصدرت النساء اللبنانيات برقتهن وجمالهن الصورة لدرجة أن المصريين كانوا يدمنون مظاهرات لبنان وما زالوا، وكان لوجودهن فاعلية فى تخفيف التوترات عند الحواجز فى الشوارع، ومن أروع ما رأيت كانت مسيرة شموع لنساء فى مظاهرة حتى يُحذّروا من إعادة المجتمع اللبنانى للحرب الأهلية والتى كان يُخطط لها من بعض قيادات الأحزاب الدينية. لم يستفد الربيع العربى الثانى من الأول فقط بل أيضًا الحكام الذين فى الحكم استفادوا من الربيع الأول فقد أخذوا دروسًا مما حدث من استعجال «مبارك» فى الاستجابة للمتظاهرين وأيضًا «زين العابدين»، فقد تصنع الرؤساء فى الموجة الثانية البلادة وبدأوا يتطلعون إلى «بشار الأسد» وحاولوا تقليده. ربما يبقون فى مناصبهم على أى حال حتى لو كان تمزيق الوطن أشلاء. عزيزى القارئ لم يسدل الستار بعد حتى الآن لا فى سوريا أو ليبيا أو اليمن أو لبنان فهل هناك فصول لم تكتمل أحداثها؟ وهل ما زال الربيع حال بيننا؟ أعتقد ذلك.

أستاذ مقارنة الأديان

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved