دِيـارهُم

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 10 يناير 2020 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

اعتدت مُنذ سنوات على زيارةٍ نصف سَنوية لمَعرضٍ؛ بضائعه أغلبها مِن المُنتجات اليدويَّة، مَحليَّة الصُنع. أخرجُ مِنه بأشياءٍ صغيرةٍ أشتهيها؛ أميلُ إلى بساطتِها، وخُشونة مَظهرِها، وابتعادهِا عن المُبالغات.
***
هذه المرةُ خرَجتُ بحيرةٍ غير مَعهودة وغصّةٍ غريبة؛ فالطابقان الذي يُقام عليهما المَعرضُ قد انفصم ما يربطهما من وِحدةِ الطابعِ وتجانسه، وغاب عنهما تناغُمُ الأجواءِ والانسجام؛ انفصلا مَاديًا ومَعنويًا حتى كاد أحدُهُما يُجافي الآخر.
***
بدا الطابقُ الأرضيّ خاصًا بصفوةٍ مُنتقاه، بينما العلويّ لعامةِ الناس؛ مَركزٌ وهامشٌ وما بينهما درجات سُلم كهربائيّ يخترقُ الفجوَةَ، وكأنه المَعبرُ المُقدَّس. صعودٌ هزيلٌ يُبرِز تواضُعَ الحال، وهُبوطٌ يَخلبُ الأنظارَ ويُميل الكفَّةَ ناحيةَ الصَّفوةِ، والسؤالُ الذي يطرح نفسَه دون مَشقَّة؛ يتعلَّقُ بدور الدولةِ الذي يُفترضُ أن تؤديه في دعمِ مَن يحتاجون دَعمها، لا مَن يُكملون زينتَها ويُبرزون نعومَةَ وجهِها.
***
لَمعَت أركانُ "ديارنا" وتلألأت أرجاؤُه، بل ودخلته أخيرًا مَاكينات الفيزا؛ لكنها لم تتجاوز بِضعةَ أيادٍ مُدرَّبة، دَرَجَت على استخدامِ الأزرارِ وعلى التعامُل مع الحِسابات البَنكيةِ دون جَهدٍ يُذكَر. ارتقى المكانُ مَراتبَ عِدَّة على مُستوى الأناقةِ والرفاهةِ، وبذخِ المَعروضات وفخامةِ التنظيم، وهَبَطَ في الوقتِ ذاتِه درجاتٍ أكثرَ على مُستوى الفكرةِ الأولى التي قامَ لخدمتِها؛ التسويق لمُنتجات الأُسَرِ الفقيرةِ، وتشجيع الأيدي العاملةِ في الكُفور والنُجوع، وفَتْح أبوابِ عَمَل لقاطني القُرى القابعة في أقاليم مُهمَلة؛ لا تجد لها مَنفذًا ولا مُتنفسًا. كَسَت المعرض رُوحٌ أكثرَ كُلفةً واعتناءً، لكنه فَقَدَ مُقابلها جزءًا مِن حَميميَته وروحه البسيطة المَألوفة.
***
الحِنَّاءُ القادِمةُ رأسًا مِن أقصَى الجَنوب، والروائح العِطريَّة النافذة، والأعشابُ المُمَيَّزة بطزاجَتِها وأُثرِها، والطواقي اليَدوية المُزركشة والحُليّ المُستَقى مِن بِيئة وتُراثِ العارضين؛ مُفردات طالما احتلَّت مساحات عريضةً مِن المَناضِد المُتجاوِرة، واليوم قد تراجَعَ وجودُها إلى حَدّ بّعيد. المَخبُوزات التي يتميَّز بها كُلُّ إقليمٍ على حده؛ تحوَّلت إلى مُستنسَخاتٍ ثابتةٍ مِن "البتيفور" والكعك والغُرَيّبة، في حين فَقَدَت المِحوجة والحجازية والمَعمولة عُروشَها وتوارَت خجلًا؛ فقد تَبدَّلت الأذواقُ مع تَبدُّل نوعيةِ الزائرين.
***
دَخَلَ كبارُ القَومِ وعليتُهم المَكانَ في السَّنوات الأخيرة، وأعربوا عن اهتمامِهم به، وعزمِهم تحسين أحوالِه، ورَفع مُستواه؛ فكان ما كان؛ جاء التطوير بنَبذِ بُسطاءِ العارضين، وخَنقِ أدناهم لصالحِ الأعلى، واستبعاد مَن لم يتمَكَّن مِن مُجاراة المُتطلَّبات والشروطِ المُستجدَّة. إزاحةُ تدريجيَّةٌ للأرقِّ حالًا والأبدى احتياجًا، لصالحِ الأوفرِ حظًا وحظوةً، والأجملِ طلَّة أمام العدسات التي تُصاحِب العظماء مِن أصحابِ المناصِب والمَسئولين جيئةً وذهابًا.
***
تغير الجمهور تبعًا لتغير قيمة المعروض وارتفاع أسعاره؛ ارتفعت الشرائحِ الاقتصاديةِ الوافدة، وتوارت طبقات اجتماعية بعينها وانزوت عن المشهد. الزوار أغلبهم نساءٌ كما جرت العادة في سنوات فائتة؛ لكن الحال الاجتماعية التي تنعكس في نوعية الملابس والمظهر العام، تختلف تمام الاختلاف. ظهرت على سبيل المثال سيدات متأنقات، يحملن بين أصابعهن السيجار الرفيع الفاخر ويلقين نظرات فاحصة هنا وهناك، وغابت أخريات أقل بريقًا؛ يسحبن في أيديهن الأطفال الصغار، ويعدنهم ببعض الحلوى المخبوزة، بينما يفتشن عن مُبتغاهن.
***
طلت بشائرُ التغيير مُتناثرةً في دورة المَعرِض السالفة، ثم تفاقَمت في الدورةِ الحالية، ولا شكَّ أن مُخطَّطاتَ التطوير التي تنفجر في شتَّى المَجالات والأنحاء؛ تشي بالمَزيد.
***
مِن المَعارف والأصدقاء الأعزاء مَن زاروا المعرض وانبهروا بمُحتوياته المُستحدَثة، وكتبوا يمدحون علاماتِ الجَودة ورَوعة المَشغولات التي تنافس في الذوقِ والصَنعةِ مُنتجات عالمية شهيرة، والحَقّ أن للإعجاب دوافعَ مَوضُوعية وأسبابًا ظاهرة؛ لكنني عن نفسي عُدت مِن زيارتي بشيء مِن الانكسار؛ فنساءٌ ورجال اعتدت رؤيتهم في مرات سابقة، وحَفظت وُجوهَهم وبعضَ أسمائهم، ودَرَجت على شِراء ما برعوا في إعداده؛ قد اختفوا مِن المكان؛ إلى الأبد أغلب الظن. لم يعُد هناك مَوضعٌ في صَدر المَعرِض لسيدات كادحات، تحمل ملامحهن بصمات الحياة الشاقة وشظفها؛ قادمات مِن بيوتهن رأسًا لعرض ما تشقَّقت في سبيل إنجازه أكفُّهن، وأُرهِقَت أعينهُن، وأصبح دون مُبالغة قطعةً مِن أرواحهن.
***
قدَّم وديع الصافي واحدة مِن أروع أغانيه وأبقاها أثرًا، حين غنى للديار وأهلِها وأحبائِها، وحين كَست صوتَه نبراتُ حزنٍ وحَنينٍ وهو يتساءل عن "حبايب الدار" الذين تركوها في وحشة وصمت، وجعلوها بغيابهم كالفضاء المهجور، والسؤال في هذه الحال حق؛ فالديار ما فقدت أصحابها خواءٌ، والأمكنة لا تحيا إلا بناسها.
***
منذ فترة قصيرة تبدلت العناوين، ورفعت اللافتات التي تعلن عن بدء المعرض اسمًا جديدًا يستلهم التُراثَ بدلا مِن الديار، ولم يلبث التراث أن انتقل إلى مناطق مغايرة؛ أكثر أهمية ربما. عاد العنوان القديم أدراجه؛ لكن الديارَ ارتدت ثوبًا غير ثوبِها، وصارت أخرى دون التي عرفها مَن خبروها سلفًا واطمئنوا لها وتعلقوا بها.. صارت ديارهم لا ديارنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved