حاتم على... والذاكرة الجمعية

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 10 يناير 2021 - 7:55 م بتوقيت القاهرة

لماذا بكاه جميع السوريين وَرَثَوْه.. ومهما كانت مواقفهم من «الثورة» أو «المؤامرة» أو «الحرب الأهلية»، فى زمنٍ لا يزال هناك من يدعون لقتل الآخرين.. الآخرين بمن فيهم «الرماديين» الذين لم ينضووا تحت لواء هذا التصور أو ذاك «للمأساة» السورية؟
هل حقا بكاه السوريون لأن رحيله قرع ناقوس الخطر للتنبيه إلى احتضار الهوية السورية، كما كتبت صحفية، ولأنه ذكرهم أن عليهم أن يقروا بما اقترفت أيديهم، هم أنفسهم، بحق أحلامهم الكبيرة، و«لأنكم قد حولتمونا أنتم جماعة السياسة والإعلام والمجتمع المدنى إلى إرهابيين وشبيحة وانفصاليين! ولم تتركوا لنا ما نفتخر به»، كما جاء على لسان إحدى المشيعات؟
لكن ما الذى يربط حاتم على حقيقة بالهوية السورية إلى هذا القدر؟ هو ابن الجولان المحتل، جُرح السوريين النازف باستمرار وثانى نزوحٍ سورى كبير بعد الإسكندرون. نشأ بين مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين وحى الحجر الأسود الفقير المدقِع فى دمشق، العار القائم دوما على كل من تولى إدارة أمور سورية فى عقود ما قبل الانتفاضة، والعار الذى يدفع للتساؤل عمن يجب لومه أن كثيرا من أبنائهما انضموا إلى «داعش».
السوريون لم يعرفوا حاتم على عبر موطن نشأته، بل عبر أعماله الفنية، وخاصة المسلسلات التلفزيونية التى رافقت جيلا كاملا بينهم. وواضحٌ أنها تركت أثرا كبيرا فى ذاكرتهم الجمعية. وقد طبعت أعماله سمتان أساسيتان: التاريخ والمجتمع، دون نسيان أنها لم تكن أعماله وحده بل لثلة من الكتاب والمخرجين والممثلين وغيرهم.
***
رافق هاجس التاريخ مسيرته منذ بداياتها فى رواية «موت مدرس التاريخ العجوز» الذى سرقت السلطة ذاكرته بعد أن ادعت تكريمه. وربما هو يحمد الله اليوم أنها لم تؤبنه وتكرمه عند وفاته. لافتٌ أن أحد أكبر أعماله مع ممدوح عدوان سنة 2000 كان «الزير سالم» وحرب البسوس الجاهلية تحت شعار «لا تصالح» والثأر إلى ما لا نهاية، دون الإشارة إلى مسيحيته. ولافتٌ أيضا كيف غيب قصدا، هو والكاتب الفلسطينى وليد سيف، التشابك السنى ــ الشيعى / الفاطمى فى مسلسل «صلاح الدين الأيوبى» (2001). ولافتٌ كذلك كيف روج للنموذج الشامى الأموى فى مسلسل «صقر قريش» (2002) مقابل النموذج العباسى، وكيف أظهر أن «السلطان يُغرى صاحبه» فى «ربيع قرطبة» (2003)، وكيف شدد على أن «الطغاة كانوا دوما شرطا للغزاة» فى «ملوك الطوائف» (2005)، وأن الجزء الأخير من «الرباعية الأندلسية» عن «سقوط غرناطة» لم يجد ممولا لإنتاجه. فى حين يبرز مسلسل «التغريبة الفلسطينية» ليس لمجرد بقاء ذاكرة اغتصاب فلسطين حية حين عُرِضَ فى 2004، بل الأعمق منها اليوم فى ظل التطبيع المتسارع مع إسرائيل وتجاهل الفلسطينيين فى الداخل والخارج... كشعب. لافتٌ أيضا كيف أثار مسلسل «الفاروق عُمَر» (2012) الممول قطريا و«المدقق» من قبل يوسف القرضاوى وسلمان العودة، والذى تم إنتاجه فى بداية أحداث «الربيع العربى»، إشكاليات كبيرة.
محقٌ فواز حداد حين رثى حاتم على أنه «ليس من السهل البقاء حرا، ولا حتى على قيد الحياة»... فى زمن الطغاة وملوك الطوائف و«العملة الزائفة».
كان الهاجس الاجتماعى قد سبق ذلك البعد التاريخى عند حاتم على، بداية مع هيثم حقى فى صراع التقليد والحداثة ضمن العائلة الواحدة فى «دائرة النار» (1988)، ثم سابرا موجة هجرة الريف إلى المدينة التى طبعت سوريا فى العقود الماضية فى «فارس فى المدينة» (1995)، ثم إشكاليات الحفاظ على التراث فى «عودك رنان» (1997)، ثم مسلسل «الفصول الأربعة» (1999 و2002) الذى كان له الوقع الاجتماعى الأكبر لأنه مثل واقع معيشة العائلات الدمشقية المتوسطة اليوم ما جعل الكثيرين يجسدون أنفسهم فيه، حتى جاء «قلم حمرة» (2014) ليعرض كيف تبدى هذا الواقع خلال الصراع فى سوريا.
تجرأ حاتم على فى عرضه للاعتقالات والتعذيب، خصوصا فى «قلم حمرة»، ولرموز أجهزة السلطة وصراعاتهم فى «العراب ــ نادى الشرق»، ثم كيف أن «الصراع (بين رموز السلطة) سينتقل إلى جيلٍ جديد، جيل الشباب الذى سيتلقى الموروث المترسِب كل شىء عن جيلٍ سابق، وبالتالى سيكون الصراع مفتوحا» فى «العراب ــ تحت الحزام». وكذلك على عدم المساواة والسماح بالهفوة التى تعانى منه النساء فى «عصى الدمع» و«الغفران»، والتحدث بصراحة عن ظاهرة القبيسيات (النساء السلفيات حسب الطريقة الشامية) وعن العادة الشهرية وعن المثلية الجنسية. هذا عدا السخرية من الواقع فى «مرايا».
***
رحل حاتم على بينما كان يحضر لمشروعٍ درامى، عن الحرب العالمية الأولى، المعروفة فى بلاد الشام بـ«سفربرلك» والتى أسست لوعد بلفور ولسايكس ــ بيكو اللذين يستحضرهما كثيرون اليوم.
رغم كل هذا، ينتقد البعض حاتم على أنه لم ينحز صراحة للاستقطاب القائم اليوم بين المظلوميات، الحقيقية أو المتخيلة، التى يتبنونها وأن أبطال مسلسلاته «خلاصيون» رومانسيون. بالطبع يُمكن أن تخضع جميع هذه الأعمال يوما لقراءة نقدية عميقة. إلا أن تخطى التأسف عليه للاستقطاب القائم له دلالاته.
فى الحقيقة، لا شك أن أعماله، وأعمال عددٍ من رفاقه، والتى تم إنتاجها للمفارقة التاريخية فى ظل الاستبداد قد أسست لوعيٍ جماعى، إنسانى واجتماعي، شكل الأساس لانخراط الكثير من أبناء جيل 2011 فى الانتفاضة، السلمية فى بداياتها الأولى، على ذات الاستبداد تحديدا. ولا شك أن هذه الأعمال قد أسست أيضا لهوية وطنية سورية هى التى يبكى عليها السوريون بعد عشر سنوات من الصراع المدمر، بالوكالة وبالمباشر، الذى لا طائلة له سوى... زوال الوطن.
هكذا كان السوريون قد بكوا جميعهم، حتى الأشد كرها لنظام البعث، فى 9 يونيو 1967. بكوا على نكستهم. وبكى السوريون جميعهم، حتى الأشد مناهضة لعبدالناصر، فى 28 سبتمبر 1970 يوم وفاته. لأنه كان يُمثل، رغم كل شىء، جزءا من هويتهم، فهم الذين «ورطوه» بالوحدة مع مصر قبل أن ينبذوها. وبكوا نزار قبانى ومشوا وراء نعشه رغم السلطة، فهو الذى أنشد «أيها الناس: لقد أصبحت سلطانا عليكم، فاكسروا أصنامكم بعد ضلال، واعبدونى»… فى حين لم يبكِ كثيرون يوم رحيل «حافظ الأسد» الذى قصده نزار فى قصيدته، بل توجسوا صمتا خوفا من المستقبل. وكانوا محقين فى توجسهم. وعلى الأغلب، لن يبكوا غدا، على رحيل لا رموز السلطة القائمة ولا «رموز» معارضتها.
غريبٌ أمر الذاكرة الجمعية... من الذى تكرمه وتجعله رمزا لتخطيها لفئويتها وعشائريتها وطائفيتها ومظلومياتها وحتى استقطاباتها... وتنصبه «بطلا رومانسيا لخلاصها»... وكما أنشد نزار: «لو مدمنو الكلام فى بلدنا... قد بذلوا نصف ما بذلت».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved