دوافع ومتطلبات التقارب التركي السوري

رخا أحمد حسن
رخا أحمد حسن

آخر تحديث: الأربعاء 11 يناير 2023 - 10:14 ص بتوقيت القاهرة

حدث تحول كبير فى سياسة تركيا تجاه سوريا خلال عام 2022، بالانتقال من حالة العداء الشديد والمطالبة والعمل من خلال المعارضة السورية المسلحة وبعض المنظمات الإرهابية على إسقاط النظام السورى لصالح المعارضة بالتعاون مع أطراف إقليمية ودولية، إلى مسار آخر يدعو إلى فتح حوار وتقارب بين أنقرة ودمشق بترحيب ودعم ورعاية روسية. وقد بدأ الحوار التركى السورى المباشر برعاية روسية على مستوى رؤساء أجهزة المخابرات فى الدول الثلاث، ثم ارتفع إلى المستوى الوزارى بعقد لقاء ثلاثى فى موسكو جمع وزراء الدفاع فى تركيا وسوريا وروسيا يوم 28 ديسمبر 2022، وتناول عدة موضوعات، كما أثار عدة ردود أفعال على مستويات مختلفة.
وقد تناول الاجتماع الوزارى الثلاثى وفقا لمصادر عن كبار المسئولين فى موسكو وأنقرة ودمشق، سبل حل الأزمة السورية وفقا لقرار مجلس الأمن 2254 الصادر فى 2015، وضرورة مواصلة الحوار من أجل تحقيق الاستقرار فى سوريا، وحل مشكلة اللاجئات واللاجئين السوريين فى تركيا وعودتهم الآمنة إلى بلداتهم، حيث يقدر عددهم بنحو 3,7 مليون لاجئ ولاجئة، وبحث الجهود المشتركة التركية السورية لمكافحة الإرهاب والجماعات المتطرفة. ويلاحظ أن الأطراف الثلاثة وصفت الاجتماع والحوار بأنه كان بناء، كما اتفقوا على ضرورة استمراره.
• • •
تجدر الإشارة إلى أن مطالب كل من سوريا وتركيا قد تم تناولها فى اجتماع رؤساء المخابرات فى يوليو 2022، وأهم مطالب سوريا هى احترام سيادتها وسلامة أراضيها، والاتفاق على جدول زمنى لانسحاب القوات التركية من الأراضى السورية، ووقف دعم تركيا لفصائل المعارضة السورية والمنظمات الإرهابية، وفتح طريق حلب ــ اللاذقية، وطريق باب الهوى ــ إدلب وامتداداتهما، واتخاذ تركيا إجراءات ضد العقوبات الأمريكية والغربية المفروضة على سوريا، ودعم تركيا لعملية إعادة الإعمار فى سوريا. وكانت أهم مطالب تركيا تعاون سوريا معها ضد وحدات حماية الشعب الكردى (وهى مكون رئيسى فى قوات سوريا الديمقراطية ــ قسد) وحزب العمال الكردستانى السورى، وإقامة منطقة أمنية خالية من قوات قسد وحزب العمال الكردستانى السورى على بعد 30 كيلومترا من الحدود التركية ــ السورية داخل سوريا، والعمل على توفير مناطق آمنة داخل سوريا، وإعادة نحو مليون لاجئة ولاجئ سورى من تركيا، والتعاون من جانب النظام السورى فى عمل اللجنة الدستورية السورية من أجل التوصل إلى حل سياسى بموجب قرار مجلس الأمن 2254. ولم يحدث وقتئذ توافق بين الطرفين التركى والسورى، حيث رؤى إرجاء المباحثات إلى جولات أخرى.
وقد تسربت معلومات أن وزير الدفاع التركى خلوصى أكار رفض أثناء الاجتماع الثلاثى فى موسكو طلبين قدمهما وزير الدفاع السورى، أولهما أن تصنف تركيا المعارضة السورية باعتبارها جماعات إرهابية، والثانى أن يتم إعلان المناطق السورية فى شمال غرب سوريا «مناطق إرهاب». كما أن وزير الدفاع السورى لم يبد استعدادا للعمل المشترك مع تركيا ضد قوات حماية الشعب الكردية السورية التى تعتبرها تركيا جماعة إرهابية وامتدادا لحزب العمال الكردى السورى الذى تصنفه أيضا حزبا إرهابيا. وأن هذا الموقف السورى ينبع من رغبة النظام السورى فى استمرار الحوار القائم بينه وقيادات المجلس السورى الديمقراطى الكردى (مسد) للاتفاق على ترتيبات العلاقات بينهما باعتبار أنها مسألة سورية داخلية يفضل تسويتها فى هذا الإطار دون تدخل خارجى مباشر.
وترى قسد أنها سحبت جميع أسلحتها الثقيلة ومقاتلى وحدات الشعب فى أواخر عام 2019 بعيدا عن الحدود التركية السورية بمسافة 30 كيلومترا بموجب اتفاق سوتشى فى أواخر عام 2019 بين تركيا وروسيا، لكنها ترفض سحب قوات الشرطة (أسايش) والمجالس المحلية باعتبارها مقوما أساسيا للإدارة الذاتية الكردية، وتراهن على احتمالات عدم فوز الرئيس التركى أردوغان فى الانتخابات القادمة، وعلى الوجود الأمريكى (الرمزى) فى شمال سوريا ورفض واشنطن مسار التطبيع بين تركيا وسوريا. بينما تطالب تركيا وتصر على تفكيك جميع المؤسسات الكردية ودمج الشرطة (الأسايش) فى قوات أمن النظام السورى، وأن تتولى قوات الجيش النظامى أمن منطقة على عمق 30 كيلومترا من الحدود مع تركيا. ويلاحظ أن ثمة توافقا بين موقف أنقرة ودمشق تجاه قوات حماية الشعب وقوات الشرطة (أسايش) الكردية وحلول قوات النظام محلها.
ووفقا لمسار التطبيع التركى طبقا لما أبلغه الرئيس أردوغان للرئيس بوتين، فإنه يتدرج من اجتماعات على مستوى رؤساء المخابرات، ثم الوزراء، ثم لقاء بين الرئيسين أردوغان والأسد. وقد أوضح كل من وزير خارجية تركيا والمتحدث باسم الرئاسة التركية أنه بعد لقاء وزراء الدفاع سيكون لقاء وزراء الخارجية الذى يجرى الإعداد له وتحديد موعده، والذى سيتوقف على نتائجه وما يتم إحرازه من تقدم فيه تحديد موعد للقاء الرؤساء. وأن الموقف الآن بيد دمشق ومدى ما ستبديه من تجاوب وما تقوم به من خطوات على مسار التطبيع بين البلدين وتحقيق الأهداف المرجوة.
أعربت المعارضة السورية عن رفضها أو اعتراضها أو قلقها على عدة مستويات، وبعدة وسائل من القيام بمظاهرات فى المناطق التى تسيطر عليها أو الموجود بها قوات تركية، أو بإصدار بيانات وتصريحات تعترض فيها على مسار التطبيع التركى وترى فيه تخليا عن الثورة والشعب السورى، وتؤكد عزمها الاستمرار فى تحقيق مطلبها بإسقاط النظام السورى. وإزاء هذا القلق الشديد من جانب المعارضة، عقد وزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو يوم 3 يناير 2023 اجتماعا مع رئيس الائتلاف الوطنى السورى المعارض، ورئيس هيئة التفاوض السورية المعارضة، ورئيس الحكومة السورية المؤقتة، حيث أكد لهم دعم تركيا للمعارضة السورية والشعب السورى، وفقا لقرار مجلس الأمن 2254. وسبق أن أكد أوغلو أن تركيا لن تعمل ضد المعارضة السورية، رغم خطوات التطبيع مع النظام السورى، وترى ضرورة التوافق بين المعارضة والنظام للتوصل إلى حل للأزمة السورية وتحقيق الاستقرار فى سوريا.
ومن الواضح أن الخيارات أمام الأكراد، الذين تصدوا بشراسة خلال سنوات الأزمة السورية لتنظيم داعش، صعبة للغاية أمام وجود مصالح مشتركة لكل من تركيا وسوريا وروسيا ــ بل وإيران أيضا لإنهاء نفوذ الأكراد، وإضعاف دعم واشنطن لهم، خاصة وأن واشنطن اكتفت خلال الفترة الماضية بالتحذير من مغبة التصعيد التركى للقيام بعملية عسكرية ضدهم، ولم تبذل أى مسعى لإيجاد مخرج سواء لتركيا أو للأكراد السوريين نظرا لانقطاع الاتصال بين واشنطن ودمشق المدعومة بقوة من روسيا وإيران. وما زال الأكراد السوريون متمسكين بالاحتفاظ بالإدارة الذاتية فى ظل أى تسوية للأزمة السورية، وهو ما لا يقبله النظام السورى خلال مفاوضاته معهم.
• • •
أعربت الخارجية الأمريكية عن رفضها لمسار التطبيع التركى مع دمشق وأنها تطلب من كل دول العالم عدم التطبيع مع النظام السورى، حيث ترى أن له سجلا مروعا فى ملف حقوق الإنسان، ووجود ملايين اللاجئات واللاجئين السوريين فى عدة دول. ويرى بعض الخبراء الأمريكيين أن مسار التطبيع هذا لن ينجح لوجود الكثير من التناقضات من وجهة نظرهم.
ولكن من الواضح أن مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق لن يتأثر كثيرا بالموقف الأمريكى لإدراك تركيا لمدى احتياج واشنطن والدول الأوروبية لدورها الوسيط فى الأزمة الأوكرانية باعتبارها عضوا فى الناتو، وطرفا مقبولا من روسيا وأوكرانيا. كما أن الموقف التركى لن يتأثر كثيرا بما تراه المعارضة السورية، وترى أنقرة إمكانية السير فى خطين متوازيين، الأول تطبيع العلاقات مع النظام السورى لتحقيق الأمن على حدودها بضمانات روسية، وبدء العمل على إعادة اللاجئات واللاجئين السوريين لديها والبدء بنحو مليون لاجئ ولاجئة من الذين فروا من مناطق القتال فى سوريا إلى تركيا بحثا عن فرص عمل جديدة وحياة أكثر أمنا دون انتماء لأى طرف من المعارضة، ويتوقعون أن يقبلهم النظام السورى ويوفر لهم الأمان، هذا إلى جانب احتمال فتح العلاقات التجارية والتخفيف من حدة العقوبات الغربية على سوريا، وكلها أمور تخدم النظام التركى فى معركة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية فى 23 يونيو 2023. وبالتوازى مع ذلك وفقا لوجهة النظر التركية، يستمر العمل على التوفيق بين المعارضة والنظام السورى للتوصل لتسوية سياسية وفقا لقرار مجلس الأمن 2254.
أما روسيا، فإنها تريد تحقيق عدة أهداف بتشجيعها تركيا وسوريا على الدخول فى مسار تطبيع العلاقات بينهما، منها كسب ود تركيا بمساعدة الرئيس أردوغان على تأمين الحدود، وبداية حل مشكلة اللاجئات واللاجئين السوريين لديه التى تستخدمها المعارضة التركية ضده، ولا شك أن ذلك يحسن موقفه وحزبه فى الانتخابات، وإضعاف الدور الأمريكى بتحجيم قوات سوريا الديمقراطية ودور أكراد سوريا اللذين تدعمهما واشنطن، وجعل تركيا تستمر فى عدم تطبيق العقوبات الغربية على روسيا، وكذلك تخفيف الأعباء عن النظام السورى الذى يواجه أزمة اقتصادية غير مسبوقة فى ظل عدم إمكان روسيا وإيران تقديم المساعدات الكافية لما يمران به أيضا من ظروف اقتصادية صعبة سواء بسبب الحرب الأوكرانية بالنسبة لروسيا أو العقوبات الاقتصادية على إيران.
وفيما يتعلق بسوريا، فإن النظام يرى فى المصالحة والتطبيع مع تركيا عدة مكاسب، منها تحجيم دور الأكراد السوريين ودفعهم إلى قبول العودة إلى نظام الدولة السورية الموحدة، واستعادة النظام السيطرة على مساحات كبيرة من شمال سوريا، ووقف أو تقليل دعم تركيا للمعارضة السورية المسلحة، وجبهة تحرير الشام (جبهة النصرة) المصنفة منظمة إرهابية، مع اتخاذ أنقرة موقفا إيجابيا تجاه التسوية السياسية للأزمة السورية، وإمكانية التوصل لاتفاقات معها فى مجالات إعادة الإعمار والتبادل التجارى.
وتجدر الإشارة إلى زيارة وزير خارجية الإمارات العربية لدمشق يوم 4 يناير 2023 ولقائه مع وزير الخارجية السورى والرئيس بشار الأسد الذى سبق أن زار الإمارات العربية فى مارس 2022، وبحث الوزير الإماراتى، إلى جانب العلاقات الثنائية، القيام بدور مكمل للوساطة الروسية فى التطبيع بين دمشق وأنقرة على ضوء تحسن العلاقات الإماراتية التركية بصورة ملحوظة خلال العام الماضى، وما تسرب من إبداء رغبة فى استضافة الإمارات لاجتماع ثلاثية قادمة تركية روسية سورية.
ويلاحظ وجود عدة قضايا أخرى على مسار التطبيع التركى السورى، إلى جانب الموقف الأمريكى الرافض وتأثيره على الأكراد السوريين، منها المرتزقة الأجانب وداعش، وجبهة تحرير الشام، وكيفية التعامل معهم وإعادتهم إلى الدول التى ينتمون إليها. هذا إلى جانب موقف إيران من التقارب التركى السورى، وموقف إسرائيل وارتباط دورها مع واشنطن. كلها قضايا تحتاج إلى جهود كبيرة على عدة مستويات ومع عدة أطراف، وإن كان نجاح مسار التطبيع التركى السورى يتوقف بدرجة كبيرة على رغبة كلا الطرفين فى إنجاحه وإظهار جدية واستمرارية فيما يتخذونه من خطوات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved