تشابك الأزمات على الساحة التونسية

رخا أحمد حسن
رخا أحمد حسن

آخر تحديث: الأربعاء 10 فبراير 2021 - 6:55 م بتوقيت القاهرة

تكاثرت وتشابكت الأزمات بكل أنواعها على الساحة التونسية، ما بين أزمات اقتصادية واجتماعية طاحنة ابتلعت كل تطلعات الشعب التونسى التى كان يصبو إليها منذ قيامه بثورة الياسمين فى ديسمبر 2010، وقد تواكب معها أزمات سياسية متتالية فى حلقات من الصراع بين التيارات والكتل السياسية المختلفة وسعى كل منها لتصدر المشهد فى تونس دون إعطاء الأولوية للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وجاءت جائحة كورونا بكل تبعاتها الصحية والاقتصادية وما فرضته من عزلة على كل دول العالم وما لذلك من آثار مدمرة للسياحة وهى واحدة من أهم مصادر الدخل والعمالة فى تونس، مما زاد الأزمات عمقا وتعقيدا.
وقد حرص رئيس الوزراء هشام المشيشى على تحقيق نوع من التهدئة والتعايش مع كل من حركة النهضة (إسلامية) وحزب قلب تونس، وهما متوافقان معا فى البرلمان، وذلك بقبول إجراء تعديل وزارى شمل 11 وزيرا جديدا من بينهم وزراء يحظون برضاء حركة النهضة، وحزب قلب تونس. ولكن حدث خلاف بين رئيس الحكومة هشام المشيشى، ورئيس الجمهورية قيس سعيد، حول أربعة من الوزراء المرشحين وأوضح رئيس الجمهورية أنه لن يوافق على تعديل وزارى يضم وزراء عليهم شبهة فساد وتضارب مصالح.
ولكن رئيس الوزراء استمر فى إجراءات التعديل الوزارى وعرضه على البرلمان التونسى يوم 26 يناير 2021 وقد منح البرلمان ثقته للوزراء الجدد بالأغلبية، وانسحب من التصويت الحزب الدستورى الحر برئاسة النائبة عبير موسى وله 17 عضوا فى البرلمان لاعتراضه على الوزراء الجدد وعلى الحكومة التى تتحالف مع حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشى. وتمسك الرئيس قيس سعيد بموقفه ورفض تحديد موعد للوزراء الجدد لتأدية اليمين الدستورية أمامه، وهو ما أضاف أزمة دستورية إلى الأزمات الأخرى.
وأوضح رئيس الوزراء أن هناك صلاحيات دستورية واضحة ومسارا محددا، وأن أداء الوزراء الحاصلين على ثقة البرلمان لليمين الدستورية هى مسألة وقت، وأنه طلب من رئيس الجمهورية تحديد موعد لأداء الوزراء الجدد اليمين فى قصر قرطاج الرئاسى. ورأى البعض أن موقف رئيس الوزراء يمثل نوعا من التحدى المستتر لرئيس الجمهورية، مقارنة بما اتخذه رئيس الوزراء نفسه عندما أقال وزير الداخلية لعدم تشاوره معه فى التعيينات الجديدة فى وزارته والتى اعتبرها المشيشى خروجا عن مفهوم التنسيق بين الوزراء ورئيس الحكومة.
ويلاحظ أن حركة النهضة تحرص دائما على الدعوة إلى ترسيخ فكرة أن البرلمان هو السلطة الفعلية فى تونس، وتأكيد رئيسها راشد الغنوشى أن النظام فى تونس نظام برلمانى، وأن دور رئيس الدولة هو دور رمزى وليس دورا إنشائيا، وأن موضوع الحكم ورئيس مجلس الوزراء يعود إلى الحزب الحاكم الذى من أساس مسئولياته الحكومة. وهو بهذا يشير إلى أن حركة النهضة لها أكبر عدد نواب فى البرلمان مقارنة بأى من الأحزاب الأخرى رغم أن عدد نوابها لا يتجاوز 25% من إجمالى عدد النواب فى البرلمان. ويرى الغنوشى أن تونس فى حاجة إلى نظام برلمانى كامل يمنح مقاليد الحكم للحزب الفائز فى الانتخابات البرلمانية، ويتم الفصل بين السلطات الثلاث، وتكون السلطة التنفيذية كلها بيد رئيس الوزراء. وقال أن تعطل إنشاء المحكمة الدستورية أدى إلى فتح الباب أمام التأويلات الدستورية من قبل رئيس الجمهورية.
وقد تواكب مع الأزمة الدستورية السياسية ما قام به الحزب الدستورى الحر من تشويش وإحداث ضجة لوقف أعمال البرلمان، والقيام بمظاهرات ضد الحكومة التى أسمتها «حكومة الفشل» وإحياء طلب سحب الثقة من رئيس البرلمان راشد الغنوشى بدعوى وجود علاقات مشبوهة مع أطراف إقليمية خارجية، وسحب الثقة من النائبة الأولى لرئيس البرلمان، وهو ما يحتاج إلى موافقة ٧٣ نائبا لتقديم الطلب للبرلمان، والمطالبة بتمرير عريضة تسحب الثقة من حكومة المشيشى إزاء تفاقم الاحتجاجات الاجتماعية خاصة فى الأحياء الفقيرة، واعتماد الحكومة على الحلول الأمنية لمحاصرة المطالب الاجتماعية المشروعة والاعتداء على المحتجين رغم إن هذا حقهم الدستورى ويقومون به سلميا.
وهاجمت قيادات من حزب النهضة زعيمة الحزب الدستورى الحر عبير موسى، ووصفوا ما قامت به بأنه أعمال غير مسئولة وتتسم بالتهور خاصة تعطيل أعمال البرلمان، وطالبوا بإنشاء حراسة خاصة بالبرلمان تتولى أعمال حراسته مستقلة عن حرس رئاسة الجمهورية الذى يتولى حراسة البرلمان حاليا. وقد فسر هذا المطلب برغبة حركة النهضة فى تأكيد استقلالية البرلمان وأنه مركز السلطات بحكم سيطرتها النسبية عليه بتحالفها مع كل من حزب قلب تونس، وائتلاف الكرامة.
***
وفى خضم هذه الأحداث انتشرت أنباء عن وصول «ظرف مشبوه» إلى رئاسة الجمهورية، وقيل إن المستهدف به هو رئيس الجمهورية، وأن مديرة الديوان الرئاسى أصيبت بوعكة صحية إثر تلقيها المظروف المشبوه، وهو ما أثار جدلا سياسيا وأمنيا خاصة بعد أن أفادت النيابة العامة أنها تلقت تقريرا يؤكد أن الظرف المشبوه الموجه لرئيس الجمهورية قيس سعيد «لا يحوى أية مادة سامة مشبوهة، أو مخدرة، أو خطرة، أو متفجرة». وقامت مظاهرات مؤيدة لرئيس الجمهورية ورفعت شعار «نحن نصدق الرئيس قيس». وقام الرئيس قيس سعيد بجولة فى الشارع الرئيسى فى العاصمة ثم توجه إلى زيارة وزارة الداخلية التى يتولاها حاليا رئيس الحكومة هشام المشيشى إلى أن يعتمد الوزير الجديد ضمن وزراء التعديل الوزارى. وواضح أن الرئيس قيس سعيد يريد أن يذكر رئيس الحكومة بزيارته له عندما كان وزيرا للداخلية ثم اختياره ليكون رئيسا للوزراء.
وتعددت المظاهرات وأسبابها، من مظاهرات وتجمعات لإحياء الذكرى العاشرة لثورة الياسمين فى ديسمبر 2010 وكانت بداية لثورات الربيع العربى، ومظاهرات ضد الحكومة والفساد وسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومظاهرات ضد السلطات الأمنية والإفراط فى استخدام العنف ضد المتظاهرين السلميين والهتاف بشعارات عدائية ضد الأمن والحكومة، ومظاهرات تأييد للرئيس قيس سعيد. وفى خضم ذلك قامت مظاهرات لإحياء ذكرى مقتل القيادى اليسارى شكرى بلعيد فى عام 2013 وقد وجهت القوى اليسارية المعارضة أصابع الاتهام لحركة النهضة وجددت المظاهرات المطالبة باستقالة الحكومة والإفراج عن كل المعتقلين فى المظاهرات الأخيرة.
***
وكان من المستجدات فى كل هذه التشابكات والاحتجاجات التى نظمتها النقابة الوطنية لقوات الأمن التونسى على مدى ثلاثة أيام من الأول حتى الثالث من فبراير 2021 نظموا خلالها وقفات احتجاجية لمدة ساعة صباح كل يوم أمام مقار عملهم، وتعليق الخدمات الإدارية، وعدم تحرير مخالفات مرورية والمحاضر والرادارات، وتعليق تأمين جميع الأنشطة الرياضية والثقافية، وذلك كله احتجاجا على ما لحق برجال الأمن من إهانات واعتداءات اعتبروا أنها ممنهجة ضدهم وذلك فى ظل صمت مريب لسلطاتهم الإشرافية، والطبقة السياسية برمتها. وقد استنكر كل من رئيس الحكومة، وحركة النهضة، ما يتعرض له رجال الأمن من اعتداءات وإهانة.
***
وإزاء استحكام كل هذه الأزمات خاصة أزمة أداء الوزراء الجدد اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية، فقد طرحت عدة آراء وسيناريوهات ما بين سياسية ودستورية. فبينما يرى بعض فقهاء القانون الدستورى أن من حق رئيس الجمهورية أن يقبل أو يرفض بعض الوزراء الذين يؤدون اليمين الدستورية أمامه. يرى بعض أساتذة القانون الدستورى اللجوء إلى تطبيق ما يسمى «الإجراء المستحيل» أى اعتبار أن ثمة عقبات تحول دون أداء الوزراء الجدد الحاصلين على ثقة البرلمان، اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية، ومن ثم فإن الوزراء يمكنهم القيام بمهامهم إلى أن يتم التوصل إلى تسوية للموقف. ولكن يرى البعض أن الأخذ «بالإجراء المستحيل» سيؤدى إلى مزيد من تعقيد وتأزم الموقف وازدياد الاحتقان المزدوج ما بين الرئاسة والبرلمان من ناحية، وبين جناحى السلطة التنفيذية، الرئاسة ورئاسة الحكومة من ناحية أخرى.
***
وقد انتقد عدد من القيادات السياسية وأساتذة القانون الدستورى، موقف رئيس الجمهورية ويرى حزب قلب تونس الداعم للحكومة ضرورة استقبال رئيس الجمهورية الوزراء الجدد الذين منحهم البرلمان الثقة بأغلبية أصواته، وأن الدستور واضح فى فصله 92 حيث يمكن رئيس الحكومة من تعيين وعزل وتغيير الوزراء والوزارات فى إطار صلاحياته الدستورية، وأنه لم يتجاوز فى التعديل الوزارى الأخير. وترى حركة مشروع تونس (معارضة) أن يقدم رئيس الجمهورية تنازلا ويلتقى مع رئيس الوزراء لتجاوز حالة التنافر السياسى.
هذا بينما يؤيد اتحاد العمال (الشغل) حزب المسار الديمقراطى الاجتماعى (يسارى) دعوة الوزراء الذين تحوم حولهم شبهات فساد أو تضارب مصالح إلى الانسحاب من التعديل الوزارى كخطوة أولى لحلحلة الأزمة السياسية، وحمل المسئولية كاملة للائتلاف الحاكم ولرئيس الحكومة، ورئيس الجمهورية فيما آل إليه الوضع السياسى المتأزم، والوضع الاجتماعى المتردى، وتراجع القوة الشرائية، وتعطيل مؤسسات الدولة، وارتفاع حالة الاحتقان التى تنذر بانفجار اجتماعى قوى.
وأعلنت حركة النهضة دعمها لحكومة المشيشى، والدعوة إلى استكمال التعديل الوزارى بأن يؤدى الوزراء الجدد مهامهم مباشرة لمواجهة التحديات والمصاعب التى تمر بها البلاد لاستعادة الانتعاش الاقتصادى، ومعالجة المشكلات الاجتماعية، وكسب المعركة ضد كورونا، وحسن إدارة المفاوضات مع المؤسسات الدولية وكسب ثقة الشركاء الاقتصاديين.
وانتقدت عدة أحزاب من المعارضة موقف حركة النهضة ووصفته بالازدواجية والكيل بمكيالين، ونوهت إلى أن حركة النهضة تمسكت بإقالة حكومة إلياس الفخفاخ على أساس أن بعض وزرائها والفخفاخ نفسه متهمون بشبهة تضارب المصالح، وها هى الآن تؤيد وتتمسك بتعديل وزارى لأربعة من الوزراء الجدد فيه تحوم حولهم شبهة فساد، أو تضارب مصالح، ودعت الحركة إلى الالتزام بمعايير واحدة.
لقد وصل الوضع فى تونس بتشابك أزماته بكل أنواعها، وحالة السخط والغضب التى تسود بين أغلبية فئات الشعب وخاصة الطبقة الفقيرة، وتمسك كل طرف من الأطراف السياسية والتنفيذية بموقفه، إلى حالة من الجمود فى حاجة إما إلى اللجوء إلى حلول وسط لا تخل بالدستور والقانون، أو استقالة الحكومة وإعادة تشكيلها من جديد مع الأخذ باقتراح استبعاد الوزراء موضع الخلاف فى كل الأحوال لضمان استقرار الحكومة وتفرغها لمواجهة المشكلات الأساسية خاصة الاقتصادية والاجتماعية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved