ما شعورك وأنت تقرأ ملفك فى أمن الدولة؟

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 10 مارس 2011 - 9:05 ص بتوقيت القاهرة

كان مشهدا لافتا، أبناء الشعب أمام مقار أمن الدولة يبحثون عن ملفات تحمل أسماءهم وتحكى عنهم حكايات صاغها آخرون، وستبقى للتاريخ السيرة الرسمية الأوحد. يومها وأنا أشاهد الناس تنقذ من الحريق ملفاتها تذكرت الزيارة التى قام بها المؤرخ تيموثى جارتون آش إلى ألمانيا بعد سقوط حائط برلين. فور وصوله طلب الاطلاع على الملف الخاص به فى أرشيف شتاسى، جهاز الأمن السياسى الذى اشتهرت به ألمانيا الشرقية فى العهد الشيوعى، حينها كان شتاسى محل حسد العديد من أجهزة الأمن فى الدول الاستبدادية وكعبتهم، التى يحجون إليها ويشرفون بالاطلاع على أحدث أساليب التعذيب.

كانت صحيفة الدستور فى عهد الصحفى الكبير إبراهيم عيسى قد نشرت لى مقالا كتبته عن تجربة المؤرخ البريطانى، الذى أتاحت له الظروف قراءة ملفه السرى المحفوظ فى أرشيف الأمن العام الألمانى. نقلت فى المقال بعضا مما قرأته عن قصة علاقة أكاديمى بريطانى بأشهر جهاز مباحث فى العصر الحديث، وهى العلاقة التى بدأت، كما يقول المؤلف يوم عبر فيه حدود ألمانيا الشرقية فى عام 1980 متوجها إلى برلين فى مهمة دراسية. وقد دفعتنى إلى الكتابة فى هذا الموضوع ونقل القصة إلى القراء المصريين والعرب الزيادة غير العادية فى التوتر الناشب فى مصر وقت كتابة مقالى (2007) بين فئات وأفراد من الشعب من جهة والأجهزة المسئولة عن الأمن الداخلى من جهة أخرى، وشعورى الأكيد بأن الحاجة صارت ماسة إلى صحوة قبل فوات الأوان.

عندما سقط سور برلين وتوحدت ألمانيا فاجأت الحكومة الفيدرالية فى بون العالم بالإعراب عن نيتها فتح أرشيف جهاز شتاسى لكل من يريد الاطلاع على الملف الخاص به فى هذا الأرشيف. وعلى الفور طار تيموثيى جارتون آش مدفوعا بحسه الأكاديمى إلى ألمانيا طالبا الاطلاع على ملفه. وكان قد تأكد قبل سفره من اكسفورد أن اسمه مدرج فى القوائم، التى سجلت عناوين جميع الملفات. هناك فى برلين، وفى مقر جهاز المباحث الذى تحول إلى متحف، كانت مفاجآت كثيرة فى انتظاره.
●●●
لم يدر بخلد تيموثى أن الملف الذى يحمل اسمه كبير الحجم إلى هذه الدرجة التى وجده عليها بالنظر إلى أن زيارته، التى قام بها عام 1980 لم تدم طويلا، فضلا عن أنها لم تكن حافلة بالاتصالات أو اللقاءات المثيرة للشكوك. فقد سافر إلى برلين كطالب يريد أن يستكمل جانبا من دراسة استدعت الاطلاع على وثائق تاريخية باللغة الألمانية محفوظة فى المكتبات العامة ببرلين.. واستدعت أيضا لقاءات مع مؤرخين ألمان لتبادل الرأى حول بعض موضوعاتها. كان يعرف أن معلومات عنه لابد وأن سبقته إلى برلين تنبئ عن نشاطه كواحد من الناشطين فى الحركة الطلابية بجامعة أكسفورد.

امتدت يد تيموثى آش لتفتح الملف السميك بعدد صفحات تجاوز الـ 350 صفحة، متشوقا ليقرأ عن نفسه ما كتبه آخرون لم تكن الأمانة بين أولوياتهم وأخلاقياتهم. وبالفعل أطل عليه من بين السطور حجم هائل من الخداع والكذب وأشياء أخرى أسوأ كثيرا.. أخرج من حقيبة يده مفكرته الشخصية، التى كانت فى حوزته خلال إقامته القصيرة فى برلين ولم تكن تفارقه وقتها، وبدأ يقارن بين المعلومات الواردة فى الملف عن تحركاته ولقاءاته وما أكل وما شرب، وبين ما سطره بيده فى المفكرة. اكتشف على الفور وابتداء من الصفحات الأولى فى الملف أن المخبرين الذين استخدمتهم إدارة المباحث الألمانية كانوا ينقلون عن مفكرته، ولكن بتصرف معتدل أحيانا، وبالكذب والتزييف فى أحيان أخرى. هكذا عرف أن أحد هؤلاء المخبرين، أو إحداهن، لابد وأن يكون أحد الألمان الذين قامت بين تيموثى وبينهم فى ذلك الحين علاقة صداقة أو علاقة عاطفية وحميمة.

●●●
لم يخطر على باله قبل أن يأتى إلى برلين أنه ستتاح له فرصة يندر أن تتاح مرة أخرى، وهى ان يقرأ بعينيه كيف كان يبدو للآخرين، بمعنى آخر يقرأ رواية كتبها هؤلاء تحكى ما تصوروه تفاصيل حياته. جلس يقرأ قرأ مرحلة من حياته من تأليف أشخاص آخرين، وبعضها تفاصيل لم يعشها فعلا ولا يتذكرها، لأنها كانت من بنات خيال كاتبيها، أو تخيلاتهم لحياته وأسلوب معيشته. هؤلاء الآخرون هم المخبرون والضباط الذين ملأوا صفحات «الملف» بحواديت عن حياة طالب شاب حسبما اعتقدوا أن تكون وليس حسبما كانت فعلا وفى الواقع.

تزاحمت الأسئلة فى ذهن تيموثى. إذا كانوا إلى هذه الدرجة قريبين منى فلماذا هذا الاختلاف فى الروايتين: روايتهم وروايتى؟ وإذا كانوا بشرا، وهم بالفعل بشر قبل أن يكونوا مخبرين ورجال أمن، فماذا كان حكمهم عليه وهو بشر مثلهم؟ ثم إنه لو عادت الأيام التى يحكى حكايتها «الملف» هل كان سيتصرف الشاب تيموثى أو أى شخص آخر فى أى مكان آخر، كما تصرف، بعد أن عرف أن هناك من يراقبه ويحلل شخصيته ويسجل ويملأ صفحات ملف يحمل اسمه ويصبح جزءا من ذاكرة الدولة.

وبينما هو يقرأ فى ملف سيرته الذاتية فى قاعة أرشيف مباحث أمن الدولة فى برلين، طرأ سؤال جديد لم يجد له إجابة، ولا أظن أن أحدا غيره من قبله أو بعده بين كل الذين احتفظت لهم اجهزة أمن بملفات محشوة بتقارير لمخبرين مكلفين أو متطوعين، وجد إجابة عنه. أما السؤال فهو «ما هو هذا الشىء الذى يدفع شخصا ليصبح مدافعا عن الحق وحرية أخيه الإنسان وكرامته ويدفع شخصا آخر ليكون عدوا للحرية ووفيا لأفكار الدكتاتورية والاستبداد. لم يقتنع تيموثى صاحب الملف باستحالة وجود جواب عن السؤال، فذهب يبحث بنفسه عن المخبرين، الذين تطوعوا لكتابة أوراق هذا الملف وعن الضباط الذين كانوا يوجهونهم ويحللون معهم المعلومات.

●●●
اكتشف آش خلال بحثه خارج المتحف أن «ميكائيلا» الرقيقة والوديعة كانت تكتب تقارير دورية عنه، وكانت تكتب أيضا تقارير عن ابنة زوجها. وعرف أن أحد المحاضرين المتميزين فى الجامعة وكان يلتقى به للتشاور والدرس تطوع لكتابة تقارير مقابل وعود بتحسين وضع أقدميته، توصل أيضا إلى أن رجلا إنجليزى الجنسية مثله، أى مواطنا، كان مكلفا بكتابة تقارير استنادا إلى علاقة قامت بينهما وأن سيدة معروفة تحمل على كتفيها تاريخ نضال طويل فى الحزب الشيوعى الألمانى، وكانت نهايتها على ما يبدو أن عملت مخبرة محترفة بدافع الولاء للنظام والعقيدة والوطن.

قابل الضباط، الذين كانوا مسئولين عنه وعن تحركاته. أحدهم كان تجسيدا لنموذج البيروقراطى «المنفذ للشر أو للخير أيهما يكلف به»، وآخر برتبه عقيد نادم على ما فعل. وقد وجد هذا الأخير غارقا فى شرب الكحول ومدمنا لدخان السجائر بعد أن تمكن منه الملل والشعور بفراغ الروح أو فراغ النفس، وهو أبشع أنواع الشعور، التى يقول الأطباء إنها تصيب بعض من يمارس عمليات تعذيب أو تدبير فضائح وابتزاز.

يقول المؤلف أنه فوجئ حين لم يجد بين كل المخبرين وضباط شتاسى، الذين تعاملوا مع ملفه إلا قليل جدا الذى اعترف بأنه واجه ماضيه وتألم لأنه ارتكب أشياء فظيعة فى حياته. وقد فوجئت مثله بما توصل إليه آش، ولكن بعد قليل من الدرس والتروى واستشارة أصدقاء متخصصين وجدت نفسى أتفق معه وهو يقول بأن قراءة ملف كهذا كالعثور على كنز معرفى. يعترف آش أنه قبل الاطلاع على الملف لم يكن يعرف أن الضعف الإنسانى يمكن أن يؤدى إلى الهبوط إلى هذه الدرجة فى الكذب ونقص الأمانة. لقد قرأ فى الملف قصصا وروايات تحكى عن مشاعر وممارسات حب تحتوى على تفاصيل صداقات قوية وصحية وصادقة ولقاءات أكاديمية.

كانت الوقائع الأساسية الواردة فيها فيها، كالزمان والمكان، صحيحة، ولكن كل شىء آخر تحيط به شبكة من الكذب أو الحقائق الناقصة والمشوهة. عدت بالذاكرة إلى الضجة، التى ثارت فى أعقاب فتح الأرشيف فى برلين لعامة الناس ليقرأوا الملفات التى تحمل أسماءهم وتذكرت مشكلة تعرض لها أكثر من رجل اكتشف أن زوجته وابنته أو صديقته كانت من المخبرين الذين كتبوا تقارير عنه. كم رجل أو امرأة عاش فى ألمانيا الشرقية فى عائلة أو بناية أو قرية ومن حوله دخان كثيف من الشكوك فى أقرب الناس إليه وفى جو ثقيل وفاسد من التنصت والتجسس ونقص الولاء والمزايدة على الوطنية والمبادئ واختلاط الشرف بالعار والصدق بالكذب والأمانة بالخيانة؟

يبقى السؤال الأخير، هل تجاوز الشعب فى ألمانيا تداعيات هذه الكارثة؟، خاصة وقد عرف أن مباحث شتاسى كانت توظف آلاف الموظفين وتستفيد من خدمات مئات الألوف من أبناء وبنات الشعب. هؤلاء وغيرهم كثيرون كانوا فى خدمة جهاز استخدم معهم المغريات المادية والوعود بالمناصب الأعلى والوظائف المعتبرة فى أجهزة الدولة والشركات الكبرى، ولكنه استخدم أيضا الشر فى أسوأ صوره وبأبشع أدواته، ولم يفته أن يستخدم الولاء للمذهب أو للطائفة أو للعقيدة أو للوطن. سألت كثيرين من أصدقاء ألمان وآخرين من رومانيا والمجر وبلغاريا عاشوا التجربة أو أخرى شبيهة، وأستطيع أن أؤكد أن الجروح، رغم انقضاء عقدين أو أكثر، لم تندمل بعد.

●●●

أعجبتنى عبارة كتبها آش صاحب «الملف» فى معرض حديثه عن شعوره وهو يقرأ عن حياته بأقلام أشخاص عديدين، يقول: «شعرت ببعض الخجل وأنا أقرأ تقارير كتبها المخبرون عنى.. أحسست بشعور الشخص الذى يتجسس على ما كتبه شخص آخر فى شأن خاص بدون استئذانه»، وأضاف أنه كان يقضى الساعات فى أرشيف المباحث يقرأ معلومات عن نفسه مر على كتابتها عقدان، وبين الحين والآخر يغلب على الإحساس «بشعور رجل فى الأربعينات من عمره يتجسس على شاب فى العشرينات» فينتابنى الخجل مما أفعل. أنا أتجسس على نفسى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved