البعض يذهب إلى المقبرة فى جندول

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 10 مارس 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

بما أن أخبار الموتى والقتلى أصبحت مؤخرا من الأشياء المعتادة فى حياتنا اليومية، فلنتحدث عن الموت فى ظروف أخرى، عندما يذهب البعض إلى المقبرة فى جندول أو على متن قوارب بخارية. ذلك هو الحال بالنسبة لواحدة من أندر المدافن فى العالم التى يتوجه إليها الموتى بحرا: جزيرة سان ميكيلى (San Michele ) التابعة لفينيسيا أو البندقية، كما كان يسميها العرب.

 

•••

 

لا يوجد أطفال يشبهون أحمد زكى فى فيلم «أنا لا أكذب ولكنى أتجمل» يلعبون وينامون فى مدخل المدفن حين يتعبون من الجرى والصراخ وقد اشترك بعضهم فى مواراة جثمان المتوفى الثرى قبل لحظات، ولا يوجد الطابور المتراص من السيدات والرجال الذين يطلبون الصدقة... بل العديد من الأنصاب الحجرية البيضاء التى تزينها غالبا الزهور البلاستيكية الملونة، وسط حدائق متدرجة، تحيط بها أشجار السرو فى جمال مهيب. تطالعك صور أشخاص مروا على هذه الأرض من قبل وهم الآن يرقدون تحتها... زوج وزوجة فى أبهى حللهما، موسيقى بارز أو مهندس معمارى... وأحيانا لضيق «جزيرة الموتى» تصل سراديب الدفن إلى ستة أدورا تعتليها جميعا الزهور البلاستيكية التى تضفى جانبا مرحا على المكان رغم جلال الموت. ونظرا لارتفاع سعر الأرض يقتصر الدفن فى سان ميكيلى حاليا على طبقة معينة من المقتدرين والأثرياء، بل ويتم نقل الرفاة إلى موقع آخر بعد عشر سنوات لإفساح المدافن لآخرين. فى حين لم يكن الأمر كذلك فى بدايات القرن التاسع عشر عندما أمر نابليون بإنشاء تلك المقابر لأسباب صحية وتخصيص الجزيرة بأسرها لهذا الغرض بعد ضمها لأخرى مجاورة، وعهد بالمشروع إلى المهندس المعروف وقتها جيان آنطونيو سلفا عام 1806، لتضم جزءا كاثوليكيا وآخرا أرثوذكسيا، ثم ثالثا خاص بطائفة البروتستانت، ثم اليهود.

 

•••

 

نتجول بين هذه المناطق الأربعة لنكتشف قبر المؤلف الموسيقى سترافينسكى، فى مكان ليس ببعيد عن صديقه مصمم الباليه الروسى سيرجى دياغليف، وقد جرت العادة أن يترك الزوار من الراقصين الشباب بأحذيتهم الساتان على سبيل الاعتراف بالجميل، إذ تمرد على الباليه الامبراطورى وتعاون مع أهم موسيقى عصره وعلى رأسهم سترافينسكى، فأبدعا معا أعمالا مثل «عصفور النار» و«طقوس الربيع».

 

 على مقربة منهما يرقد مواطن روسى آخر وهو الشاعر جوزيف برودسكى الحاصل على جائزة نوبل فى الآداب عام 1987، وكان قد طرد من بلاده فى السبعينيات بعد نشر ديوانه «طفيلية» وحصل على الجنسية الأمريكية ودرس فى أرقى جامعات الولايات المتحدة، ورغم أنه توفى على إثر أزمة قلبية وهو فى نيويورك عام 1996 إلا أنه أراد أن يدفن فى مقبرة فينيسيا لولعه بالمدينة الإيطالية واعتزازه الشديد بأعماله المترجمة إلى لغتها، القريبة من روح القوافى فى الشعر الروسى.

 

•••

 

أما فى الجزء البروتستانتى فيرقد شاعر وناقد أمريكى شهير من محبى موسولينى، وهو عذرا باوند، الذى انتقل إلى إيطاليا ليروج للفاشية، ثم دفع ثمن مواقفه السياسية وعاش فى صمت تام منذ نهاية الخمسينيات، ذلك رغم دوره الأدبى البارز وكونه من رواد الشعر الحر. وقد وصف جنازته مارك آلين فى كتابه «سائر فى فينيسيا» وكيف أقلته إلى «جزيرة الموتى» قوارب الجندول المطلية باللون الأسود وقد اكتست بالورود... هكذا يصحبنا الكاتب فى رحلة عبر الزمن مع مسافرين سبعة منهم عذرا باوند وبرودسكى واللورد بايرون وفاجنر إلى أرجاء فينيسيا والجزر الصغيرة المحيطة وآدابها وموسيقاها وأكلاتها وحكاياتها... وكانت بالضرورة جزيرة سان ميكيلى ( San Michele)  ضمن الجولة، فلا يمكننا التعرف على مدينة دون زيارة مقابرها، هناك قد ننعم بشيء من السكينة والهدوء، رغم أن الموت واحد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved