حلول اقتصادية فى الظل

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الخميس 10 مارس 2016 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

هذا السؤال هو أسوأ ما يمكن أن يصيب الاقتصادى فى مداخلات البرامج الحوارية، يصدمك به مقدم البرنامج يتحداك ثم هو بعد يتلمظ فى قسمات وجهك إذ صفعك بسؤال ظل يفكر فيه طوال الحلقة غير عابئ بكل ما تقدمه له من تشريح للمشكلة، أو ربما غير مستوعب لفنياتها إن أردنا الإنصاف. وعلى طريقة مذيعة الأوسكار المصرية، فالسؤال يتسع فى عمومه ليشمل الحلقة والبرنامج وربما عشرات الأيام! لكنه يضيق بالإجابة إلا من دقيقتين حددهما المذيع الفذ على سبيل التعجيز، رغم أنه حينما قدم للحلقة استغرق نصف ساعة فى حوار ذاتى عبثى يخلو من أية قيمة مضافة.

أين الحل؟! وكأنك أيها الاقتصادى المتهم قد أجرمت فى حق مصر إذ أعملت جهدك لتشخيص أسباب الفقر والبطالة وتفاقم الدين العام وعجز الموازنة وعجز ميزان المدفوعات، وبحثت جاهدا عن أسباب مشكلة الدولار والطاقة وارتفاع الأسعار، وعليك الآن أن تدفع ثمن تشخيصك المؤلم فى دقيقتين أو أقل!. المشكلة فى هذا السؤال لا تقتصر على ضيق الوقت الممنوح للإجابة فحسب، لكنها أيضا تمتد لتشمل طبيعة الأزمة ومدى صلاحية صاحب التشخيص على وصف العلاج. نعم، هناك من الاقتصاديين من يملك جهازا للفحص والتشخيص لكنه لا يصف الدواء، إذ لا يملك كثير من المعلومات المطلوبة لوصفه، أو هو يتحفظ على الفتيا بغير علم مكتمل ببدائل حل الأزمة، أو هو يريد أن يضع أساسا لفتح نقاش حول الأزمة ليشترك مع المتخصصين فى تناولها وطرح البدائل للخروج منها بصورة علمية..

●●●
دعنى إذن أخبرك أين يكمن الحل بعدما أصابنى هذا السؤال عشرات المرات واكتسبت مناعة ضده، أيها الاقتصادى الزميل لا تصف الحل مطلقا بل صف الطريق إليه، وضع القواعد التى بدونها لن يكون ثمة أمل فى النجاة. الحل ليس بالضرورة فيما يجب أن تفعله الدولة بل كثيرا ما أجده فيما يجب ألا تفعله الدولة، حدود التدخل وقيود التجارة وتقييد حركة سحب وإيداع وتحويل الأموال كلها قيود لا تتماشى مع متطلبات جذب الاستثمارات وخاصة الاستثمار الأجنبى المباشر. كذلك فإن حل أية مشكلة يبدأ بتشخيصها السليم لأن كثيرا من أزماتنا الاقتصادية يكتفى بردها إلى مؤامرة محلية أو دولية، فى حين أن الأزمة عادة ما تكون نتاجا لفساد المنظومة أو القائمين عليها، تنشأ عن بيروقراطية عقيمة أو ذمم خربة أو عن مؤسسة تدار بغير ضوابط رقابية ولا يخضع أداء أفرادها للتقييم العادل والثواب والعقاب.

الحل عادة مختبئ فى الظلام، لكن بعض أصحابنا فى مراكز اتخاذ القرار دائما ما يؤثرون الشوارع المضيئة للبحث عما فقدوه فى الشارع المظلم!. الإنتاج الزراعى يتراجع بشكل كبير لنذهب إذن إلى الأراضى الرملية الجديدة لاستصلاحها بغرض زيادة الإنتاج غير عابئين بالدخول فى منعطف الفقر المائى بسرعة مذهلة، لكن تشخيص المشكلة يقودنا إلى حل أفضل وبالتأكيد أسرع للسيطرة على تراجع الإنتاج الزراعى، لو أدركنا أن تجريف الأرض الزراعية يتم بصورة يومية على مرأى ومسمع من الدولة، وكل ما نحتاجه لوقف تلك الجريمة البشعة هو تفعيل سلطة الدولة، تلك السلطة التى تقف عاجزة كل عام أمام سحابة الدخان التى تقتل جو الخريف. استصلاح الأراضى حل صعب ومكلف ماليا ومائيا لكنه يسطع تحت الأضواء، أضواء الإعلام على الأقل، لكن وقف نزيف التربة الخصبة واستعادة ما تم اغتصابه منها حل صعب وفيه مواجهة مع الفساد وربما مواجهة مسلحة مع عصابات التجريف، التكلفة إذن أكبر من العائد الإعلامى لكنها بالتأكيد أقل من العائد الاقتصادى. ربما يحتل استصلاح مليون فدان موقعا متميزا فى كتب التاريخ التى تصدرها وزارة التربية والتعليم، لكن الحفاظ على ثروة مصر الزراعية وصيانة أراضيها الخصبة ذات الإنتاجية المرتفعة سوف يحتل بالتأكيد موقعا أهم فى كتب الاقتصاد وفى الوعى الوطنى المجرد من الأهواء.

●●●
نشق الطرق الجديدة لكننا لا ندرى ما نفعل بالطرق القائمة وقد مزقها الإهمال وأهلكتها المقطورات بحمولاتها ومواصفاتها المخالفة لأمن وسلامة الطرق التى غاب عنها عقود الصيانة فى دولاب الفساد والبيروقراطية الأصيلة، وهو المصير ذاته الذى ينتظر الطرق الجديدة. كذلك نفعل بخطوط السكك الحديدية التى نريدها جديدة، بينما تركنا خطوطا قائمة ليتم تخريبها ونهبها بالكامل على يد عصابات الحديد! دائما ما نبحث عن ضالتنا فى المكان الخطأ، نكره التشخيص لأننا نعرف المرض وربما نعرف دواءه لكننا لا نسيغ الدواء المر.

نعجب لتراجع السياحة ونسلم السائح تسليم أهالى لعصابات الابتزاز والتحرش والنصب منذ لحظة وصوله فى المطار وحتى مغادرته، بالتأكيد وضع الضوابط التى تحافظ على أمن وسلامة بل ومتعة السائح تحتاج إلى فكر وإرادة أكثر ما تحتاج إلى موارد مالية، لكن الحل فى نظر البعض يكمن فى إعلان فضائى يتكلف ملايين الدولارات يظهر فيه أحد الفنانين راكبا الجمل أو فلوكة فى النيل! هذا هو الحل المضىء تحت كشافات الإعلام لكنه أبدا ليس حلا عمليا ولا يشتبك مع الأزمة.
نعجب لاختفاء الدولار وهو فى الحقيقة عرض وليس مرضا، إذ نحن لا ننتج سلعا أو خدمات تكفى احتياجات السوق المحلى فتغنى عن الاستيراد والبحث عن الدولار، أو تصلح للتصدير فتكون مصدرا مهما للدولار، وعوضا عن ذلك نقيد حركة الدولار بقرارات يومية للسياسة النقدية التى باتت تخلو من الاستقرار، فما كان من تحويلات العاملين فى الخارج (المصدر الأهم للدولار) إلا أن تتراجع، وما كان من المصدرين والمستوردين إلا أن يزيفوا الفواتير إما للتهرب من إيداع حصيلة التصدير كاملة فى البنوك، أو للتهرب من الجمارك والتى ارتفعت هى الأخرى لتشجع التهريب وتخرج بنا عن ركب تحرير التجارة الذى التزمناه منذ سنوات طوال.

●●●
القيادة العليا للبلاد فى حاجة إلى الحقيقة وإن كانت صادمة، تحتاج إلى مناقشة القرارات (حبذا لو كان ذلك قبل صدورها) بموضوعية وتجرد، لا إلى من يبرر القرارات وكأنها حكم شرعى واجب النفاذ!. الاشتباك مع الأزمة، تفاصيلها، جذورها هو طريق الحل، والتخطيط السليم ثم المتابعة الفعالة هما أداة الخلاص، وإقامة منظومة متكاملة لإدارة المخاطر المؤسسية هى الضامن على ألا نضيع أعمارنا فى مكافحة الحرائق وإعادة اكتشاف العجلة كل يوم.


خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved