بين ترامب والنُخَب

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 10 مارس 2017 - 11:20 م بتوقيت القاهرة

منذ جاء ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية صارت متابعة القنوات الإخبارية ــ غير المصرية طبعا ــ فرضا يوميا، ليس ثقيلا ولا سخيفا بل ممتعا ومُشوقا.

ممتع إلى أقصى الحدود أن يتابع المُتفرج كيف يتناول المحاورون ومُقدّمو البرامج المُتنوّعة تصريحات الرئيس الأمريكىّ الجديد، كيف يُحلّلون ويسخرون ويتندرون، وكيف يستخرجون بمُنتهى السرعة تصريحاته السابقة وخُطبه النارية وتصرفاته التلقائية، تلك التى ناقض فيها نفسه أكثر مِن مرّة وكذب، أو كما يقول المتحدثون الرسميون جاء بحقائق «بديلة».

مُقارنة البرامج والقنوات الأمريكية والإنجليزية بنظيرتها المصرية مُحبط جدا. الأولى لا يرهِبها أحدٌ؛ لا رئيس ولا وزير ولا مَلِك، تحميها القوانين وقبل القوانين تحميها الجماهير التى تخرج الشوارع وتتظاهر ضد أفكار الرئيس العنصرية ولغته العدوانية واحتقاره للبشر وتصنيفه لهم على أُسُس مُخجِلة.

الثانية يرهبها ألفُ شىء وشىء؛ ترهبها مؤسسة الحُكم، وترهبها قوانين صُكَّت خِصيصا بهدف القمع، يرهبها افتقارها إلى الظهير الشعبىّ إذ تنكص الجماهير عن الذَّوْد عنها وفى أحيان كثيرة تحتقرها وتتشفى فيها. لا ينكر أحدٌ أنّ العلاقة ما بين وسائل الإعلام المصرية والمواطن العادىّ علاقة مُعقَّدة، تحمل مِن السخرية والتشكُّك والارتياب أكثر مما تحمل مِن الثقة.

***
مُمتِع أن يقارن المرءُ أيضا ــ وبمناسبة وجود ترامب على رأس الولايات المتحدة وعلى رأس العالم كله فى الوقت ذاته ــ بين النُخب المصرية والنُخب الأمريكية، نموذج بارز يمكن التطلع إليه مليّا؛ نخبة الفنانين المكونة مِن ممثلين وممثلات ومخرجين ومخرجات ومغنين ومغنيات، والتاء هنا مهمة وإن أطالت العبارة أو حتى أرهقتها، فالنظرة التى أفصح عنها الرئيس تجاه النساء لعبت دورا استفزازيا دفع بهذه النخبة إلى اتخاذ مواقف صارمة مضادة.

ظهرت نجمات رسخت أقدامهن منذ زمن فى عالم السينما، يعترضن على الرئيس، على الملأ وأمام العالم أجمع، قالت ميريل ستريب فى دونالد ترامب ما يرقى إلى كونه هجاء قاذعا، لم تخرج بأشعار تمدحه أو بوَصلَةِ ثناء وحَمد وتعريف بأفضاله. لم تقل إنه أعظم مَن أنجبت الأرض الأمريكية على الرغم من قيامه برفع شعار «أمريكا أولا»، وهو شعار يلاقى هوى فى بعض النفوس التى تراه مبهرا، لكن ستريب لم تر فى كلام الرئيس إلا خطر النرجسية، ولم تنجح شعارات القومية والعنصرية إلا فى استثارة رفضها وحنقها.

جاء حفلُ جوائز الأوسكار بمثابة قصيدة هجائية إضافية ضد ترامب، تنوعت الكلمات وتباينت أساليب التعبير لكن واحدا مِن نُخبة الحاضرين لم يشذّ عن مضمون القصيدة، لم أسمع نجمة تهدى الجائزة إلى ترامب الذى سيعيد السلطة للأمريكيين أو نجما يصفه بحامى حمى البلاد ومُنقِذها مِن الإرهاب. تضامَن مع حملة الرفض كبار المغنين والمغنيات منذ رفضوا واحدا وراء الآخر وواحدة تلو الأخرى إحياء حفل تنصيب الرئيس، وقد شَكّلَ رفضُهم إهانة كبرى، لكن الذات المتضخمة تجاهلت الأمر وأبت الاعتراف بأن ثمّة مشكلة.

من المثير أن يبدو وجود ترامب حافزا على تصويب بعض الأمور، فقد طالت دورة الأوسكار الماضية اتهامات بالعنصرية، أما هذه المرة فجاء الردُّ عمليا؛ مُشاركة أكبر من أصحاب البشرة السمراء وترشيحات وجوائز مُنصِفة، والمعنى أنه قد يحدث الخطأ وينحرف المسار، لكن التقويم مُمكن وتدارُك الخطأ واجب. من المثير أن استشعار جدية التهديد الذى يضرب عمق المبادئ الحامية لسلامة واتساق المجتمع، دفع النُخبة إلى التكاتُف ونفض ما علِق بثوبها من غبار، العنصرية موجودة وصورها حاضرة لكنها تجد دوما من يقف فى وجهها.

***
بعيدا عن أوسكار ووقائعه، تداولت وسائل الإعلام خبر قيام توم هانكس بإهداء ماكينة اكسبرسو جديدة لغرفة صحفيى البيت الأبيض بعد منعهم من حضور حدث رسمىّ على درجة من الأهمية بالبيت الأبيض. لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يهدى فيها هانكس ماكينة القهوة للصحفيين، لكن التوقيت والسياق عكسا دعمه جهودهم وتثمينه حريتهم ومساندته لهم فى المعركة ضد رئيس يكره الصدق ويرغب فى حبس المعلومات وإبادة الصحفيين.

مُمتع أن يقارن المرءُ بين نخبتين؛ واحدة يجتمع أفرادها ويتوحدون على إعلاء قيم الإنسانية وإعلان المقاومة فى وجه الصلف والتجبر ومحاولات فرض القمع، وأخرى يتبارى أفرادها على تبنى قيم تهتك وجه الإنسانية وتصفق لكبت الحرية. ممتع أن يضع المرء أولئك وهؤلاء تحت المجهر، فمعادن الناس تعرف عند الشدة والصهر
.
***
ثمة مجتمعات تتمتع بقاعدة أخلاقية سليمة وإن تجاوزها الساسة، فتنتصر لأوجه العدالة وقبول الآخر وثمّة مجتمعات تتمتع بقاعدة أخلاقية مطاطة، تكيف المفاهيم وفقا لمصالحها الشخصية الضيقة، فتنتصر لأوجه الظلم والقهر والإقصاء.
ترامب يبدأ عصرا جديدا، بقدر ما ينبذ الآخرين فإنه يوحد بينهم وبقدر ما يولد الأحقاد بين الأنظمة فإنه يزيل الحواجز بين الشعوب.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved