يوسف إدريس

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 10 مارس 2017 - 11:25 م بتوقيت القاهرة

تفتحت عينى كواحد من شباب ستينيات القرن الماضى على أهرام «محمد حسنين هيكل» تلك الصحيفة التى كانت تعتبر مكتبة متنوعة من جميع أطياف الإبداعات السياسية والفلسفية والأدبية والثقافية. فيوم الجمعة كان مقال رئيس التحرير والذى نجد فيه عمق التحليل السياسى ــ الذى لا يُبارى داخل مصر وخارجها ــ فقد كان هيكل من أفضل المحللين العالميين، من حيث عمق الفكرة ورشاقة القلم، ثم على مدى الأسبوع تجد كل يوم صفحة كاملة مخصصة لواحد من عمالقة الفكر؛ فصفحة أسبوعية مخصصة للفيلسوف زكى نجيب محمود قرأنا فيها «جنة العبيط» و«بيضة الفيل» و«التفكير العلمى»... إلخ، وأخرى للعبقرى د. لويس عوض قرأنا فيها تحليلات ونقد للمسرحيات العالمية لشكسبير وموليير وإبسن وغيرهم، وأحيانا توفيق الحكيم.

وكان عندما يبدع نجيب محفوظ قصة جديدة تنشر أولا فى الأهرام، وقد عاصرنا مشكلة أولاد حارتنا التى كانت تنشر على حلقات فى ملحق الجمعة، ثم اعترض الأزهر عليها باعتبار أنها تتعرض لأنبياء الله ــ كما تصوروا ــ وطلبوا وقف النشر، وبالفعل صدر قرار بإيقافها لكن عندما أخبر هيكل عبدالناصر بالأمر رفض إيقاف النشر وقرر أن تستكمل نشرها حتى نهايتها.
***
ثم كانت هناك صفحة خاصة ليوسف إدريس ذلك العبقرى الظاهرة صاحب المقالات اللاذعة الساخرة والقصة القصيرة التى لا يباريه أحد فيها، قرأنا له مقال «فكر الفقر وفقر الفكر» وتحدث فيه أن المجتمع الفقير ينتج فكرا له سمات خاصة ومفكرين لهم ملامح خاصة مما ينتج فقرا فى الفكر المنتج عند ذلك بشكل عام. ثم قرأنا قصصه «أرخص الليالى» و«لى لى» التى يحكى فيها عن «لى لى» الفتاة الجميلة التى كان شباكها المفتوح دائما يطل على مئذنة الجامع، وكان المؤذن عندما يصعد لأذان الفجر يراها نائمة، وقد صور إدريس الصراع الداخلى لدى الإمام بطريقة مبدعة، وهذه القصة القصيرة كانت من أجرأ ما كتب. هذا إضافة لقصة الرجل النائم على «مرتبة» ومن كثرة نومه غاص فى فراشه بشكل واضح فبدا الفراش وكأنه قبره... إلخ. هذا فضلا عن قصة الحرام والتى وصف فيها كيف يعانى الفقراء حتى الموت، وقد أخرجت كفيلم من أروع الأفلام؛ فالزوج الذى كان يعمل كعامل تراحيل أصيب بالشلل ــ وقام بدوره «عبدالله غيث» وقامت بدور زوجته العظيمة سيدة الشاشة العربية «فاتن حمامة» وأخرجه «هنرى بركات» ــ فكان على زوجته حينها أن تحل محل الزوج القعيد كعاملة تراحيل لكى تسدد الأموال التى كانوا قد اقترضوها من مقاول الأنفار مقدما قبل أن يصبح الزوج مشلولا بلا حول ولا قوة. ذهبت الزوجة المغلوبة على أمرها تجمع ثمر البطاطا وكانت النتيجة أن اغتصبها صاحب الأرض وحملت منه سفاحا وماتت فى النهاية بالحمى. ويعتبر هذا الفيلم من أهم الأفلام فى تاريخ السينما المصرية الذى صور معاناة الفقراء. كذلك كانت له مسرحياته التى من أشهرها «الفرافير».
لا تظن ــ عزيزى القارئ ــ أنى كتبت هذه المقدمة فقط لأحدثك عن يوسف إدريس النجم الوسيم صاحب الكاريزما الكاسحة والذى كان يطلق أحكامه على كتاب القصة القصيرة والطويلة، بل وهاجم نجيب محفوظ وكان واثقا كل الثقة أنه سينال جائزة نوبل فى الأدب. لكنى كتبت عنه لأنقل لك جو الستينات الذى كان يتميز بأن الدولة كما كان لها جيشها الذى يحمى حدودها وشرطتها التى تحمى الداخل هكذا كان لها أدبائها وصحفييها وفنانيها ومذيعيها... الخ.
كان يوسف إدريس معروفا بأنه رجل الدولة الناصرية ورجال الدولة الناصرية كانوا يتمتعون بحماية خاصة ولا يسمح لأحد أن ينافسهم فى مجالهم. وكما كان يوسف إدريس فى القصة كانت أم كلثوم وكذلك عبدالحليم حافظ فى المغنى مما دفع «محمد قنديل» و«محمد رشدى» للحكى فى كل مكان ــ مع الحرص ألا تصل أصواتهم إلى السلطة الحاكمة ــ أنه ممنوع عليهما منافسة عبدالحليم لأنه مطرب الثورة والمقرب للرئيس، وكذلك كانتا المطربتان نجاة الصغير وفايزة أحمد بالنسبة لأم كلثوم. ولم نتأكد فى شبابنا إن كانت هذه الأقوال حقائق أم إشاعات، أم محاولة لتبرير الفشل عند الذين يطلقون هذه الشائعات. وهكذا فقد صدم يوسف إدريس عندما ذهبت جائزة نوبل لنجيب محفوظ فهاجمه بشراسة شديدة، خاصة أنه كان قد وعد من كبار الدولة أنهم سيسعون لكى يحصل هو عليها، ولقد أعلن إدريس أن بعض أعضاء اللجنة تسرب منهم أنهم يؤيدون حصول يوسف إدريس للجائزة وهم متأكدون من ذلك، وهكذا ارتفعت آماله وتوقعاته إلى الدرجة التى جعلته يتحدث وكأنه قد حصل عليها بالفعل، لكن المفاجأة كانت صادمة وبقوة عندما ذهبت الجائزة إلى نجيب محفوظ، وبقدر ما كانت ضخامة الصدمة كانت ضخامة رد فعل يوسف إدريس الذى أعلن إن حصول نجيب محفوظ على الجائزة لم تكن بسبب تفوقه الأدبى لكن لأجل أسباب سياسية من أهمها تأييد محفوظ لزيارة السادات لإسرائيل ومعاهدة السلام. وكان إدريس يتحدث وكأنه يتهم نجيب محفوظ بالخيانة العظمى والحقيقة أن نجيب محفوظ وأصدقائه صمتوا تماما ولم يردوا على اتهامات يوسف إدريس لمحفوظ خوفا من سلاطة لسانه. ولاشك إن الحماية التى كان يتمتع بها يوسف إدريس جعلته يتمادى فى النقد اللاذع لا لمحفوظ فقط بل لمعظم أدباء عصره وتسفيه إنتاجهم بعبارات كنا نعتبرها فى ذلك الوقت سوقية، لكنها بمقياس عصرنا الحالى راقية.
***
صدر أخيرا كتاب «ضحايا يوسف إدريس وعصره» من تأليف شعبان يوسف دار بتانة للنشر وفيه يتحدث عن حضور يوسف إدريس الطاغى وسيطرته على الحياة الأدبية. لقد اعتبر شعبان يوسف أن حتى يوسف إدريس كان ضحية مرحلة شعارها «ضحية اليوم هو جلاد الغد»، وبالطبع لا يناقش المؤلف إبداعات يوسف إدريس فهو يقر بقدراته الإبداعية وعبقريته الأدبية لكنه يريد أن يوضح كيف أن بزوغ نجمه وظهوره المفاجئ المدوى على الساحة الثقافية وانتشاره القوى إنما يرجع فى الكثير منه إلى علاقته بالسلطة السياسية.
لقد عاش يوسف إدريس فى عصر توفيق الحكيم ومصطفى محمود، وقد انتقد الأخير نجاح يوسف إدريس واغتياله للكتاب المحيطين به والضغط عليهم من جميع الاتجاهات حتى لا يبرز أحدهم بأى شكل من الأشكال، باعتبار أن نجاحه فى ذلك لم يكن ليحدث لولا أن مصر كانت تعيش فى ذلك الوقت عصرا يشبه عصر المماليك، وقد أرسل خطابا يعبر عن هذا المعنى لـ«أحمد بهاء الدين» الذى كان رئيسا لتحرير مجلة «صباح الخير» حينئذ معبرا عن أن الكتاب يعيشون عصر المماليك الأدبى، ويقول أحمد بهاء الدين فى ذلك «الحقيقة تكشف عن نفسها لأن مصطفى محمود كان يبدو وكأنه يكتب عن«مذبحة القلعة»، ويقصد بهذا تنصيب يوسف إدريس وتلميعه وإبرازه على حساب ذبح جميع الكتاب الذين عاصروه فوجود يوسف إدريس اغتالهم.

***
علينا هنا أن ننتقل إلى عصرنا الحاضر حيث نستطيع أن نميز بسهولة أن الدولة تظلل بحمايتها كتابا ورؤساء تحرير ومذيعين ومذيعات بل وأدباء بنصف موهبة، وترفع حمايتها عن أدباء يشار لهم بالبنان ومذيعين مثقفين قادرين على العطاء وإقناع الجماهير، لكن لأن الدولة تعتبرهم من المعارضين ترفع حمايتها عنهم ليبرز ويتجلى أنصاف الموهوبين. وهذا ينطبق أيضا على رجال الدين والدعوة فمجرد أن يشير أصبع على صحفى ما أو مذيع حر ترفع القضايا ضدهم هنا وهناك بتهمة أنهم يثيرون ويدمرون البلاد بالفتنة الطائفية ويزدرون الأديان السماوية، لكن رجال الدين والمثقفين الذين يتمتعون بحماية الدولة لهم الحرية كاملة فى ازدراء الدين الذى يختارونه والتحقير من النساء وهنا تقطع أيادى من يرفعون القضايا عليهم. ترى إلى أين نحن ذاهبون ؟!
ما أشبه الليلة بالبارحة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved