نساء سوريا ومستقبل البلاد

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 10 مارس 2019 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

تتراوح تقديرات عدد ضحايا الصراع فى سوريا بين 400 و600 ألف، أى ما بين 2 و3% من السكان قبله. أغلب هؤلاء الضحايا هم من الرجال، مدنيين أو مقاتلين، بينما لا تتجاوز نسبة النساء بينهم 5%، بالإضافة إلى نسبة مماثلة من الأطفال. كما أدى الصراع إلى أكثر من مليون و800 ألف إصابة، أدى الكثير منها إلى إعاقات دائمة. كما تدل التقديرات أن خُمس اللاجئين السوريين فى دول الجوار يعانون من إعاقات مختلفة. هنا أيضا تبقى نسبة النساء بين هؤلاء ضعيفة مقارنة مع الرجال. بالنتيجة سيكون المجتمع السورى لما بعد الحرب ذا أغلبية نسائية واضحة عدديا، وبالتالى سيكون على نساء سوريا تحمل معاناة آثار الصراع ومشقات إعادة النهوض بالبلاد.
هذا الوضع يعيد للذاكرة ما حدث فى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية مع الدمار الكبير من جراء القصف وغلبة النساء بنسبٍ أكبر فى المجتمع. وقتها، نشأت ظاهرة ما يسمى بـ«نساء الأنقاض»، «الترومرفراو»، اللواتى عملنَ متطوعات لرفع مخلفات الحرب والإعمار بسواعدهن مقابل أجرٍ وبطاقات تموين فى بلدٍ منكوب محتل تخطى فيه عدد النساء بسبعة ملايين عدد الرجال وبقى 8 ملايين إنسان دون مأوى. احتفَت مدنٌ ألمانية كثيرة بشجاعة «الترومرفراو» وبمساهمتهن فى صناعة «المعجزة الاقتصادية الألمانية»، بصورة متباينة بين شرق ألمانيا وغربها. لكن الساسة والمجتمع حاولوا إعادتهن إلى الدور التقليدى الأسرى. ورغم انخراط النساء الكبير فى قوة عمل إعادة الإعمار وتحملهن عبء الأُسر المعيشى، وما رآه به كثُر أساسا لتحررهن، لم تُصبِح المساواة بين المرأة والرجل فى ألمانيا الغربية واقعا سوى فى تعديلٍ للقانون المدنى عام 1958 وفى دستور 1959. كان الرجل قبل ذلك قوامٌ على إرث الزوجة الخاص وعلى الأولاد وحده.
ليست ألمانيا هى الحالة الوحيدة التى شهدت انطلاق تحرر المرأة وحصولها على الحقوق بعيد حرب ومن خلال المساهمة فى إعادة الإعمار. لقد تزامن النضال من أجل حقوق المرأة (فى الاقتراع وغيره) فى الولايات المتحدة مع النضال من أجل إلغاء العبودية بعيد الحرب الأهلية الأمريكية وفى سياق إعادة الإعمار هناك. لكن لم يتم احترام المساواة إلا عبر نضالات محلية تحقق إنجازات فى ولايةٍ تلو الأخرى كى تأتى نهاية الحرب العالمية الأولى أخيرا بحق الاقتراع الدستورى للنساء (التعديل 19).
إن الحروب والكوارث، رغم آلامها ومآسيها، خلَقَت دوما فرصا لكى تصل النساء إلى المساواة والحقوق، كفئات أخرى من المجتمع. وهذا يأتى من كون أن المرأة تأخذ من جراء ظروف الحرب دورا اقتصاديا ورياديا أكبر لكثيرٍ من الأسر. إذ لا حرية حقيقية للمرأة دون استقلاليتها المادية. لكن هذه الصيرورة ليست حتمية. فها هن النساء الإندونيسيات بعد التسونامى الكارثى يعدنَ إلى مناخٍ محافظ أكثر من ذى قبل بتوجيهٍ من المصادر التى أغدقت أموال المساعدات.
فماذا عن نساء سوريا؟
بعد أن تراجعت مشاركة النساء فى قوة العمل خلال العقد الذى سبق الانتفاضة نتيجة لتسارع هجرة الريف إلى المدينة والسياسات الحكومية، لمستويات أدنى من تلك الأضعف عالميا فى البلدان العربية، أَخرَجَ الصراع الدموى نساء ريفيات أكثر من قوة العمل بسبب واقع النزوح والهجرة لعائلات كاملة. بالمقابل أدى تدمير المدارس والنزوح والهجرة إلى تقلص عمل المرأة فى أوسع نشاطين لها، أى التعليم والصحة. وهذا التقلص لا يعوضه كميا انخراط بعض النساء الحضر أكثر فى نشاطاتٍ اقتصادية واجتماعية. خاصة أن الرجال تواجدوا على جبهات القتال مع هذا الطرف أو ذاك، وأصبحت النساء فى كثير من الأحيان معيلات للأسر. إن التوسع الأخير فى أعمال النساء لا يعوِض إلا جزءا يسيرا من تقلص فرص النشاط الاقتصادى للمرأة خلال الحرب.
بالتالى ليس واضحا إن كانت المرأة السورية ستكسب استقلالية اقتصادية بشكلٍ واسعٍ بعد انتهاء الصراع. خاصة أن النساء لم يشاركنَ فى الإنتاج زمن الحرب بالقدر الذى عملت فيه نساء ألمانيا أو أمريكا أثناء فترات الصراع. ثم أن السلطة الحالية وقوانينها العقارية لما تسميه «إعادة إعمار» لا تبالى بحقوق السكن فى العشوائيات التى كانت منتشرة بشكلٍ كبير قبل الانتفاضة وهى التى أصابها الدمار الأوسع. وما يعود أثره على النساء بشكلٍ واسع. كما كانت السلطة القائمة لا تبالى أيضا بخلق فرص عمل للنساء اللاتى أجبرنَ على الهجرة من الريف. بالتوازى ستبقى القوى المحافظة تناهض المساواة بين المرأة والرجل بحجة الحفاظ على الأسرة والأعراف الموروثة. وللتذكير كانت قد أصرت فى مؤتمر القاهرة 2012 على إزالة تعبير «الدين لله والوطن للجميع» من نص «العهد الوطنى» لسوريا المستقبل، وكذلك على إضافة «بما يتناسب مع الثقافة المجتمعية» فى مجال ضمان المساواة بين المرأة والرجل. والأسوأ سيكون إذا حاولت بعض الدول فرض أجنداتها فى سياق تمويل إعادة الإعمار.
***
إن معظم الدراسات وتوجهات الأمم المتحدة عن حالات إعادة الإعمار بعد الحروب تتفِق أن أفضل السبل والنتائج تأتى حين يقوم أبناء البلاد وبناتها هم أنفسهم بإعادة الإعمار. والفرق شاسع فى إعادة بناء اللحمة الاجتماعية والسلام بين تشييد آلاف الوحدات السكنية من قبل شركة خارجية تُشغِل عمالا أجانب من دولٍ فقيرة وبين أن يقوم الأهالى بذلك. إذ إن القضية لا تخص الحجر فحسب بل أيضا وأساسا إعادة ترميم النسيج الاجتماعى والاقتصادى والثقافى، كما التراثى مثلما هو الحال بالنسبة لوسط حلب وحمص. ولرجال ونساء المناطق المهدمة تعود خيارات إعادة الإعمار.
خيارات دور نساء سوريا مع بروز أفق نهايات الحرب تعود فى الحقيقة لنساء سوريا وحدهن، انطلاقا من الواقع الاقتصادى والاجتماعى الصعب الذى سيرافق هذه المرحلة. وعليهن اختيار شكل مساهمتهن الاقتصادية مع توقف دفق أموال الحرب على المقاتلين وتصاعد الضغوط المعيشية على جميع الأطراف للرضوخ لرغبات الدولة الداعمة لها. وهن سيخترنَ سبل المساهمة فى كيفية إعادة التواصل الاجتماعى بين مناطق تخندق أهل كل منها فى ذهنيته الخاصة.. وأوهامه. وفى المحصلة ستقع على كاهلهن المهمة الصعبة فى اختيار كيفية حشد جهودهن كنساء لكى يكون لهن صوت فى صنع سوريا ما بعد الحرب. فلا حقوق تؤخَذ دون فعل جماعى.
ليس الأمر حقا نسبة من التمثيل النسائى فى هيئةٍ ما، بل الأمر كله فى القدرة على حشدٍ نسائيٍ يتجاوز «الهويات القاتلة» حول قضية تخصهن مباشرة وأولا وأخيرا.
رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved