ما قد يحدث فى أزمة السد الإثيوبى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 10 مارس 2021 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

تتسارع التطورات فى أزمة السد الإثيوبى، التى تمددت لعشر سنوات، بما ينذر أننا أمام مشاهد قرب النهاية، إما انفراجا أو انفجارا.
لم يعد ممكنا المراوحة فى المكان باسم التفاوض حتى يملأ خزان السد الإثيوبى لمرة ثانية من طرف واحد فى يوليو المقبل.
ما الذى قد يحدث إذا ما شرعت إثيوبيا فى ذلك الملء الثانى بدون اتفاق مع دولتى المصب مصر والسودان؟
لا يمكن استبعاد سيناريو واحد بالقرب من براميل البارود.
بالنظر إلى الادراك السودانى الجديد لما يمكن أن يتعرض له نحو (20) مليونا من مواطنيه فى أرياف النيل الأزرق قريبا من سد الروصيرص من أخطار محدقة إذا لم يكن هناك اتفاق قانونى ملزم قبل الملء الثانى فإنه لم يعد مستعدا لتقبل الرهانات القديمة على فوائد يجنيها من السد الإثيوبى خشية أن تداهمه الفيضانات بما لا يطيق.
كان ذلك تطورا حاسما فى ملف أزمة سد النهضة الممتدة غير معادلات وحسابات وصنع مسارا جديدا يجد اختباره الحقيقى الآن باقتراب لافت من مصر لا مثيل له منذ عقود.
وبالنظر إلى الادراك المصرى لعمق أزمة شح المياه، كأزمة وجودية، إذا ما أفلتت بفضل مخزون بحيرة السد العالى من أخطارها عند الملء الثانى للسد الإثيوبى فإنها لا يمكن أن تعوض ما قد تسحبه ومرشحة أن تجد نفسها تحت الابتزاز المائى المنهجى.
هكذا تأسست وحدة الموقف وأعادت الحقائق رسم التحالفات والسيناريوهات المحتملة بالقرب من مشاهد النهاية فى أزمة السد الإثيوبى.
لأول مرة منذ بدء الأزمة تبدت سياسة مشتركة ترفض بصوت واحد فرض الأمر الواقع والإجراءات الأحادية وتدعو للتفاوض وفق آلية دولية قادرة على الحسم.
دعمت مصر الاقتراح السودانى لوساطة رباعية دولية لإنهاء الأزمة بالتفاوض، رعاة وليسوا مراقبين شأن المفاوضات السابقة، أوسع مدى من الاتحاد الإفريقى وتضم إليه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة.
إذا لم يحدث اختراق حقيقى فى أزمة المياه فإن براميل النيران سوف تشتعل.
هذه مسئولية دولية لا يستطيع أحد تحمل عواقبها تضرب فى الأمن والسلم الدوليين بإقليم وادى النيل والقرن الإفريقى واستراتيجية البحر الأحمر.
دبلوماسيا: لا يوجد طرف واحد يلوح باستخدام السلاح لحل مثل هذا النوع من الأزمات.
واقعيا: لا يمكن استبعاد احتمال العمل العسكرى إذا ما أغلقت الأبواب والنوافذ أمام التوصل لاتفاق ملزم ونهائى يضمن مصالح الأطراف المتنازعة.
لم تبد إثيوبيا أى قدر من الاستعداد لتقبل اقتراح الرباعية الدولية، باسم رفض «التدويل».
استعادت مرة أخرى رغبتها فى التفاوض على ذات الطريقة القديمة، وأكدت مجددا التزامها بإعلان المبادئ (2015)، الذى لم تحترم أية تعهدات فيه.
المراوغة مجددا مشروع صدام عند مشارف يوليو المقبل إذا لم يكن هناك ضغط دولى يلزم إثيوبيا بالانخراط فى الآلية الدولية المقترحة.
فى المشاهد المتحركة متغيرات عديدة تزكى الضغوط الدبلوماسية بالمدى المنظور، لكنها غير مضمونة النتائج بذاتها.
هناك أولا، رئاسة جديدة للاتحاد الإفريقى، الكونغو الديمقراطية، إحدى دول حوض النيل، لديها عنايتها الخاصة بالملف ومصلحتها فى التوصل إلى اتفاق قانونى ملزم، لكنها مقيدة بحدود التفويض الممنوح لها وحسابات مصالحها داخل القارة.
هناك ثانيا، إدارة أمريكية جديدة تلزمها مصالحها واستراتيجياتها بمنع نشوب حرب جديدة بالقرب من البحر الأحمر وبين حلفاء مفترضين لها، لكن جدول أعمالها مزدحم دون أن يكون من بينه حتى إشعار آخر أزمة مياه النيل.
أرجو تذكر أنه أثناء ولاية الرئيس السابق «دونالد ترامب» توصلت وزارة الخزانة الأمريكية والبنك الدولى إلى مسودة اتفاق رفضت إثيوبيا التوقيع عليه وتحفظت السودان فى ذلك الوقت فيما وقعت مصر وحدها بالأحرف الأولى، وكان مثيرا أن وزير الخارجية الأمريكى السابق «مايك بومبيو» شجع علنا أديس أبابا على عدم التوقيع!
هناك ثالثا، الاتحاد الأوروبى الذى يترقب ملفات أكثر إلحاحا فى الشرق الأوسط مثل أزمة الاتفاق النووى الإيرانى وعينه على ما قد يتبعه الحليف الأمريكى.
هناك رابعا، الأمم المتحدة باعتبارها مظلة أوسع تضفى شرعية دولية على ما يتم التوصل إليه من اتفاقات، وقد جرت جلسة لمجلس الأمن بطلب من مصر أحالت الملف إلى الاتحاد الإفريقى الذى لم يتوصل إلى أى شىء رغم طول المفاوضات، التى تعود إلى المربع الأول مرة بعد أخرى.
إذا لم يكن هناك عمل شعبى ودبلوماسى مصرى سودانى مشترك يطرح الأزمة على العالم فإنه مستوى الاهتمام الدولى لن يرقى بأى حساب إلى مستوى الضغوط التى تنتج أثرا يعتد به.
ما يغير المعادلات قوة الحقائق على الأرض، التى كان أبرزها فى الأيام الأخيرة مستوى التقارب المصرى السودانى فى ملف السد الإثيوبى وغيره من الملفات، التى تدخل فى شواغل البلدين.
لم تكن أزمة السد من استدعت وحدها التفاهمات والاتصالات.
كلا البلدان يحتاج إلى الآخر وجوديا واستراتيجيا، وكلاهما مشدود إلى الآخر جغرافيا وتاريخيا.
هذه حقيقة لا نلتفت إليها كثيرا وندفع أثمانها دائما.
هكذا وجد السودان نفسه متطلعا إلى مصر، نصفه الآخر، باشتداد أزماته الحدودية.
عندما نجحت القوات السودانية أن تستعيد إلى سيادتها أراضى شاسعة عبر ولاية «القضارف» ومنطقة «الفشقة» استوطنتها لسنوات طويلة ميليشيات إثيوبية مدعومة من أديس أبابا جرت مواجهات محدودة دون أن ينزلقا إلى حرب واسعة تحسبا للعواقب.
ترددت فى الخطاب الإثيوبى «نظرية الطرف الثالث»، الذى يشجع السودان ويقويه وبعمل على الوصول إلى نقطة الصدام المسلح، لم تذكر مصر بالاسم، غير أن حضورها فى الصورة، «فرمل» أية نزعة لاستباحة السودان.
باليقين فإن الاتصالات والاتفاقيات العسكرية، التى رافقت زيارة رئيس هيئة أركان القوات المسلحة المصرية وقادة القوات الجوية والصاعقة والمظلات للسودان مطلع مارس الحالى، رسالة إضافية فى وقت حرج أن السودان ليس وحده.
فى أزمة الحدود بدا السودان أكثر ثقة فى نفسه وقدرته على فرض سيادته فوق كامل أراضيه، وبدت إثيوبيا أكثر انكشافا استراتيجيا فى بنيتها الداخلية وصورتها الدولية معا.
أفضت الصراعات العرقية الداخلية فى إثيوبيا وجرائم الحرب، التى ارتكبت بحق عرقية «التيجراى»، إلى تلطيخ سمعة أديس أبابا كدولة ناهضة حديثة تبحث عن التنمية وتحسين مستويات حياة شعبها، فإذا بها متهمة بجرائم ضد الإنسانية واستباحة مواطنيها على نحو استدعى أوسع إدانات دولية.
بالنسبة للسودان فإن أزمة «التيجراى» تنطوى على احتمالات متناقضة، فهى من ناحية تؤشر إلى هشاشة الوضع الداخلى الإثيوبى وتوسع من نفوذ دوره فيه، بالنظر إلى الحدود الواسعة التى تجمعه مع «التيجراى» وأعداد اللاجئين الإثيوبيين الوافدين إليه هروبا من نيران الحرب الأهلية ــ نحو (60) ألف لاجئ.. وهى من ناحية أخرى تضغط على أوضاعه الاقتصادية الصعبة بأكثر مما يطيق ويحتمل.
أمام الأوضاع المعقدة فإن أكثر ما يحتاجه البلدان الشقيقان، مصر والسودان، فى إدارة الأزمات التى تعترضهما، مكاشفة بعضهما الآخر بالحقائق ومحاولة ردم الأزمات المعرفية بين شعبيهما، التى يجرى الاستثمار فيها من وقت لآخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved