غنى حرب

محمود قاسم
محمود قاسم

آخر تحديث: الجمعة 10 أبريل 2020 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

هذا فيلم تم انتاجه وعرضه منذ أكثر من سبعين سنة، ولايكاد يعرفه الكثيرون رغم أنه متاح الآن للمشاهدة على اليوتيوب، وهو فيلم «غنى حرب» إخراج نيازى مصطفي1947، وقامت ببطولته مجموعة من الممثلين سيأتى ذكرهم تباعا، وتأتى أهميته ان وقائعه تكاد تحدث الآن من حولنا بالمصطلحات نفسها، والوقائع مع تغييرات طفيفة، فهو فيلم عن المال، إبان الأزمات الكبرى، والارتفاع الجنونى للأسعار، وعلاقة الجنيه المصرى بالدولار فى السوق المصرية، وكان يومها حسبما جاء على لسان الجزار حسنين يساوى خمسة دولارات بما يعنى أن الحياة فى مصر قد قلت قيمتها الاقتصادية مائة مرة، وإن كانت الارقام ترى أكثر من ذلك.
إنه فيلم عن الثروة المجنونة، وتدور احداثه فى الفترة من بين عام 1939، أى قبل بداية الحرب العالمية حتى نهاية هذه الحرب فى عام 1945.
هو واحد من أفلام كثيرة تخدثت عن تأثير المال فى الطبقات الفقيرة الجاهلة البدائية الخلق، الذين لا يتمتعون بأى ثقافة ويمتلكون الدأب الشديد للتعامل مع الثروات، كما أنه بالتقريب الفيلم الثانى الذى تناول طبقة من رجال الثروات المفاجئة، ولا نقول الاقتصاد.. الذين ظهروا فى المجتمع المصرى يمتلكون ثرواته ويصعدون بسرعة هائلة إلى قمة الهرم الاجتماعي، فينالون جميع أنواع المميزات، ويظلون يحتفظون بأخلاقهم الدنيئة، مهما ارتقت مساكنهم، وممتلكاتهم وسبل حيواتهم.
ففى هذه الفترة التى كان بنك مصر فى بداية عهده كانت السينما بشكل عام تحاول التركيز على أن الفوارق الاجتماعية لا تصنع الحواجز بين العشاق، مثلما رأينا فيلم «سلامة فى خير» لنيازى مصطفى أيضا، لكن هناك افلام تحذيرية كثيرة تنبه الأفراد من الثروات المفاجئة التى تنزل على الفقراء فيصبحون بين ليلة وضحاها من القادرين، بمعنى اياك أن تقترب من المال الكثير اذا جاءك او عليك حسن استخدام هذه النعم، وفى العادة فإن هذا المال المفاجئ يأتى سهلا عن طريق العم الذى يسكن البرازيل ومن هذه افلام «لو كنت غنى» إخراج بركات عام 1942، و«المظاهر» اخراج كمال سليم 1944، و«سفير جهنم» ليوسف وهبي 1945، هى افلام تؤكد للمواطن أن حلم الثراء قد يتحقق فى أى وقت، وأنه قد يصيبك فى لحظة وعليك أن تنتظر، ولا تتحرك من مكانك، الا أن هناك أفلاما أخرى ترى أن الذكاء الفطرى يدفع بأصحابه إلى تحقيق الثروات لسريعة بقراءة الواقع، وهو يعمل على تحقيق الحلم، بما يعنى أن الفقير، هو الذى يتحرك إلى مصيره ومن ابرز هذه الأفلام «السوق السوداء» لكامل التلمسانى عام 1945 و«غنى حرب» عام .1947
وقد لعب كاتب السيناريو أبو السعود الأبيارى على هذه النغمة دوما فهو الذى كتب فيلمه الأول «لو كنت غنى» وأيضا تكررت فيما بعد فى فيلمنا اليوم وفي «المليونير» وغيرها.
إعجابا بالممثل الذى جسد دور البطولة فإننى أفضل الحديث عنه قبل أن نتكلم حول الفيلم إنه بشارة واكيم أحد الذين يستحقون الاطراء أكثر ما نال، فهو للأسف لا يوضع فى مرتبة الممثلين المشهورين بالاندماج رغم أنه يمتلك هذه الموهبة، وأنا أراه لا يقل كفاءة عن زكى رستم بل إنه أكثر مرونة فهو صالح لجميع الأدوارخاصة الكوميديا، وقد عرفناه رجلا ناضجا باعتبار أنه ظهر فى العقد الأول من عمر السينما الروائية فى مصر، والمشكلة أنه لم يكن يتمتع بشخصية زكى رستم، باعتباره كان يقبل الظهور فى افلام متباينة الأهمية، لكنه للحق كان يملأ الشاشة ايا كان الدور، وقد شاهدناه فى البطولة المطلقة فى أفلام عديدة منها «حنان» لكمال سليم و«غنى حرب»، ولا أعتقد أنه كان أو سيكون ممثلا له الحضور مثلما حقق لنفسه حيث رأيناه يشارك فى العمل فى 88 فيلما فى الست سنوات الأخيرة من حياته، أى اربعة عشر فيلما كل عام، وعو رقم قياسى يدفعنا إلى وصوله موسوعة جينيس التى لم تنتبه إلى هذا الأمر، خاصة أن الكثير منها بطولات مطلقة.
تأتى أهمية الفيلم أنه ملىء بالحديث عن الأرقام، وعن المال وهو الملفت للنظر، فأفلام التحولات الاجتماعية الأخرى تكاد تخلو من ارقام، أما فيلمنا فإن الأشخاص فيه، خاصة المعلم حسنين لا يكفون فى الحديث عن الارقام بارتفاعاتها المستمرة، وهناك حالة من التوثيق الجاد لما يحدث من خلال الرجوع إلى عناوين الصحف الصادرة فى تلك الآونة التى تبين المؤشرات الهائلة فى صعود الارقام، خاصة الاسعار، مثلما يحدث الآن من حولنا مع كل صباح، ومؤشرات الارتفاع الجنونية فى الاسعار.
غنى الحرب، هو الرجل الذى استفاد بقوة من قيام الحرب العالمية الثانية فانتفلت الجيوش بين الدول حتى وصلت إلى مصر، هذه القوات كانت فى حاجة ماسة إلى السلع الغذائية، فاتجه التجار إلى توريد ما لديهم إلى الجيوش الاجنبية، وارتفعت الاسعار بشكل جنونى على المواطن العادي، وفى الفيلم رأينا كيف ارتفعت الأسعار إلى مائة ضعف فى كل شىء، وليس فقط فى السلع الغذائية حتى وصل إلى هدايا للعاهرات والراقصات، كما أن الثراء لحق بالفتاة الفقيرة نكلة (هاجر حمدي) التى صارت راقصة فى زمن الحرب وانتقلت إلى شريحة اجتماعية أعلى مثلما حدث للجزار حسنين ( بشارة واكيم)، الذى تنامت أمواله، فصار يفضل أن يناديه الآخرون باللورد، وهى أعلى درجة اجتماعية فى بريطانيا التى احتلتنا.
الفيلم يبدأ قبيل الحرب مباشرة، والمعلم حسنين الجزار هو مجرد رجل شعبى مستور، ينعم بحياة اجتماعية مستقرة مع زوجته ( مارى منيب) وابنتيه قشطة ( الهام حسين) وقطايف (ليلى فوزي). حيث يتنافس الجميع على خدمته واسعاد حياة هذا الرجل العملية كلها أرقام، لذا فهو يلتقط خبر قيام الحرب كى يفكر فى عمل مشروع بالمشاركة مع زميل آخر لتوريد السلع إلى الجيش البريطاني، ويأخذ مصاغ امرأته كى يشارك فى عمل مؤسسة لتوريد الأغذية خاصة اللحوم والبروتينات.
دعنا ننحى جانبا كيف غير المال السريع من سلوك عائلة الجزار، فقد صار الأمر تقليديا لكن تعال نتتبع علاقة غنى الحرب بارقام فى المشهد الأول من الفيلم فإن حسن مساعد الجزار وشقيق زوجته وملازمه فى رحلة الثراء يعرض علينا لعبة بالارقام تجعلك تحصل على نتائج متعددة من العملية الحساببة الواحدة، وهكذا يتلاعب التاجر بالارقام لصالحه مثلما يتلاعب الدجال قارئ الكف بالمصائر، وهذا الرجل عباس سيكون الذراع الثانية للجزار فى الرحلة، أى أن الاقتصاد من هذا النوع حالة من الدجل، والكسب المشروع، فحصيلة جمع 13 زائد 13 خمس مرات قد يكون 52، أو خمسة وخمسين، وفى المشاهد الأولى فإن الجزار يردد أنك لو امتلكت مال قارون بدون عائلة سعيدة فلا فائدة، وفى حياته العامة فإن كل شىء مرتبط بالرقم، فالجزار حين يغازل الفتاة نكلة وهى فقيرة يقول: «ورقة بألف جنيه سموها نملة» بمعنى انها تساوى الكثير كأنثى، وعندما تتغير الأمور فإن نكلة التى صارت راقصة تستقبل عندها أربعة رجال ميسورين يملأون بيتها بالهدايا ثلاثة منهم يمثلون الإدارة فى شركة غنى الحرب.
أى أن الارقام هى التى تكلمت فى الحالتين العوز والثراء وفى هذا المجتمع فإن الرقم الذى يكسبه الرجل هو معياره، كأن يقول الأب إن العريس الذى يكسب فى اليوم خمسين قرشا هو صاحب مكانة، وذلك قبل أن تبدأ الحرب. ويقر الفيلم من خلال الجزار أن «الحرب حاتخلى كل حاجة تغلى وحاتخلى الفلوس فى ايدك زى الفاصوليا»، ما يعنى الكثرة، ثم يقول: «حانكسب كل يوم خمسة ستة جنيه.. من الغلا، نورد اللحمة للجيوش والمستشفيات». وعن طريق التنبؤ بالتضخم القادم والغلاء يردد حالة التى حدثت مع الفارق عند تعويم الجنيه الذى حدث بلا حرب. وأيضا الغلاء الذى صاحب وباء الكورونا مؤخرا، ويعترف الفيلم ان الأمر سوف ينطبق على رغيف العيش حيث إن حاجة الجنود إلى الخبز سترفع سعره بجنون.

والفيلم يقترب بشكل مباشر من السياسة حين يطلق حسنين على جزارته اسم «الجزارة الديمقراطية» فى وقت لم يكن مثلا لأمر يتم فى تسمية المجازر والمحلات ويعلن الجزار أن «القرش سيعادل 8 ريال»، وهو معدل مقارب لما يدور من حولنا.
تبدو الارقام المطروحة فى البداية بالغة السذاجة، فالدخل يرتفع يوميا إلى العشرين جنيها ومضاعفاتها. ويبدو السيناريو الذى كتبه الابيارى بالغ السذاجة، فالجزار كلما ازداد ثراء ازداد شحا فى العطاء للفقراء، واتسع فى المنح للراقصات، وسرعان ما تظهر ملامح الثروة على الاسرة التى اغتنت، سواء من حيث الملابس أو المسكن، فينتقلون إلى القصر الفخم المعادل للكومباوند فى ايامنا، ويبدو الجزار الجشع وهو يعبر عن رؤيته الجديدة: «لازم نرفع سعر اللحمة لاحسن الحرب تخلص فجأة»، فى الوقت الذى تصيب القطر المصرى موجات من الغلاء لقلة الوارد بسبب الحرب. ويكشف الفيلم مساوئ الاثراء المقترن بالجهل، فالجزار لا يعرف كيف يتعامل مع التقنيات رغم انه يمتلكها وهى هنا مستوردة من بريطانيا حيث يتصور مثلا ان الراديو المستورد من بريطانيا لابد أن يتكلم بالانجليزية، وتصبح الحياة الشكلية هى الأهم، كأن تذهب الزوجة لتعلم اللغة الفرنسية لمجرد النطق ببعض الكلمات فى المجتمعات التى تتردد عليها، وتتعرف البنت على شاب يتحرش بها ويهجرها، وهى التى رفضت جارها طالب الطب، ويجسده كمال الشناوي، ويصبح اليونيفورم هو المطلب الأهم، ويبحث كل فرد عن مصلحته، وفى هذا تشابه ملحوط مع مصائر افراد العائلات فى الأفلام التى ذكرناها، ويبدو الفساد والرشاوى امرا واضحا حيث يتم دفع رشوة الف جنيه إلى الشخص الذى ساعد فى ارساء العطاء على الشركة. ويتم تعيين فتاة عصرية تجيد اللغات للعمل كسكرتيرة ويسيل عليها لعاب مجلس الإدارة الثلاثى، وتصبح لغة التعامل مع الاعلانات هى السائدة «خمس جنيهات يعنى عشرين دولارا، يعنى مائة شلنج»، وهكذا صارت الأرقام هى اللغة، والغريب أن الفيلم توقف فقط عند طبقة أغنياء الحرب، ولم نر الجانب الآخر من الاستهلاكيين، وهم الشعب نفسه، وغريب أن هذه اللغة تنقل أيضا للطبيب الشاب: «حافتح عيادة واكسب خمسة جنيه فى اليوم»، كما أن الفيلم ينظر إلى غنى الحرب باعتباره طفيليا، يتعامل مع النعمة باستهتار، يوزعها على الراقصات بسفه ملحوظ، وأنها كما جاءت سهلة سوف تتبدد، سواء بالاسراف أو النصب أو بانتهاء الحرب، وبدلا من الوفرة سيكون هناك عوز واقتراض وجرائم جنسية وسجن ثم افاقة، وهنا سوف تختفى الارقام تماما، والظاهرة تنتهى دون أن نعرف كيف صارت الأمور بعد الحرب، هل انخفضت الاسعار، وتحسنت الدخول، وبدا كأن السيناريو تتبع رحلة الصعود وتعامل بالقشور مع رحلة السقوط، فكل المشاكل سوف يتم حلها، وستظل الاسرة على قدر من الثراء، فالشريك القديم الذى صار غنيا يتقدم للزواج من الابنة قطايف، والطبيب الذى صار مقتدرا يغفر الزلة لحبيبته التى رفضته ويقبل الزواج من قشطة، ويعترف الأب بعد خروجه من السجن بما كان عليه من خطأ، لكن الفيلم لم يعد أبطاله قط إلى الحالة التى كانوا عليها قبل أن تبدأ الحرب.
إذا كانت السينما قدمت فيلما عن أغنياء الحرب، فى العام 1947، فترى هل تنتبه إلى الطبقة الجديدة التى نسميها أغنياء الكورونا التى تتنامى مكانتها الآن بشكل ملحوظ، وهل سوف نرى فيلما باسم «غنى الكورونا» بعد عامين مثلا؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved