المدينة فى زمن الكورونا

وائل زكى
وائل زكى

آخر تحديث: الجمعة 10 أبريل 2020 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

استحوذ الكورونا على اهتمامنا ثم أوقاتنا وتصرفاتنا ومصادر أرزاقنا وحياة البعض منا ــ عافانا الله منه، ذلك الفيروس الوبائى الذى يبحث له عن عائل يضيّفه فيتكاثر على خلايا صدره حتى يدمرها وينتقل من ضحية لأخرى بسهولة ويسر، وتفيدنا الثقافة الصحية العامة فى معرفة اختلاف الفيروس عن البكتيريا والطفيليات فلا تؤثر فيه المضادات الحيوية بل يعتمد الإنسان فى مواجهته على قوة جهازه المناعى فى جسمه، وتاريخيا كانت أفتك الأوبئة التى مرت على مصر هى البكتيرية مثل الطاعون الذى يعد الأقدم حتى أواسط القرن التاسع عشر ثم تأتى الأوبئة الطفيلية متمثلة فى الملاريا حيث تتبادل مع الكوليرا الهجمات الوبائية وجميعها تأتى من المياه الملوثة منقولة بالحشرات فى معظم الأحوال، وقد عانى منها الريفيون بشكل أساسى وانتقل بعضها إلى المدن عبر التنقل والتعامل المباشر وأودت فى مجملها بحياة الملايين، ومع تقدم الطب الوقائى وعلاجات الأمراض البكتيرية والطفيلية انعدم بعضها أو كاد، إلا أن الأوبئة الفيروسية تظل هى الأشرس والأكثر غلبة فى مواجهة الطب، وخلاصة القول فى ذلك أن البيئة النظيفة الصحية والجسم الصحى المكتسب المناعة بشكل سليم هو الأكثر مقاومة للأوبئة بصفة عامة.
صارت الأوبئة خلال المائة وخمسين سنة الأخيرة فيروسية وبدأت بأنواع من الإنفلونزا حتى الإيدز الذى ظهر 1976 ثم إنفلونزا الطيور والخنازير، وأودت فى مجملها بحياة عشرات الملايين، وفى جميعها تحتاج الوقاية منها إلى نظافة البيئة خاصة مصادر إمدادنا بالماء كالأنهار والغذاء كنظافة المزروعات، وتنقية الهواء، وتتمم منظومة الوقاية العامة إلى إنسان جهازه المناعى جيد، إنسان يتغذى غذاء صحيا مفيدا ولديه الوقت والإمكانات والعناصر من حوله التى تتيح له التريض والممارسة الحياتية الصحية، الأمر لا يتعلق برفاهة الحياة حينما نستعرض خسائر العالم من جراء مقاومة فيروس، ولكن يتعلق بخط الدفاع المتمثل فى البيئة وخط الحماية المباشر المتمثل فى صحة المواطن، وبالتالى فإن التصميم البيئى المعتمد على دراسات ايكولوجية (وهى الدراسات التى تربط علاقة الإنسان ببيئته كأحد عناصرها)، يبلغ من الأهمية تضافره مع أنواع التصميم الأخرى فى منظومة التخطيط العمرانى للمدينة، حتى أن تصميم اتجاهات الشوارع فى المدينة تتناسب مع اتجاهات الرياح لتسير الرياح فى الشوارع كمجارى هواء تتخللها ولا تتصادم معها، وكذلك تصميم شبكات صرف الأمطار وشبكات تصريف السيول وهما مختلفتان، إلى تصميم مسارات السيارات والمشاة والفصل بينهما قدر الإمكان.
***
لقد تعاقب مجموعة من المخططين العمرانيين متبنين فلسفة تميل إلى عودة المجتمع الحضرى إلى سابق عهده فى علاقته مع الطبيعة مع الأخذ بأسباب التقدم التكنولوجى، لا يقدمون تشكيلا للمدينة بغرض إيجاد علاقة طبيعية مع البيئة وإنما يغيرون توجه المجتمع وسلوكه فى علاقته مع البيئة، وقد بدأت تتبلور أفكار تحقق علاقة سليمة بين الإنسان وبيئته وظهرت مصطلحات كالاستدامة فى بواكير القرن الماضى، بداية بنموذج المدينة الحدائقية التى خرج بها ابنزر هوارد «مخطط عمرانى» عن مألوف المدن إلى مدن جديدة فى النطاق الريفى، وكان تخطيط حى جاردن سيتى بالقاهرة مثال محدود لتنفيذ فكرة الحدائقية داخل المدينة، وعلى الرغم مما أصاب جاردن سيتى من تسرب النشاطات الإدارية إليه وانحسار الفيلات والحدائق عنه وتحول معظم شوارعه لموقف سيارات كبير، غير أن تخطيط الشوارع به يعيق اختراقه العابر فلا يدخله إلا من يريد الوصول لعنوان داخل جاردن سيتى فيبقى الحى هادئا خاصا بسكانه، وكان السير فى الحى فى وقت ما غير ممل لانحناءات طرقه وتنوع التقاءاتها مع الميادين والتقاطعات.
لقد نبه اختصاصيو الصحة العامة والطب الوقائى إلى أن استجابة المواطنين لقواعد الصحة العامة تنجح عندما تكون غير موجهة بشكل مباشر أى تكون سلوكا معتادا على مستوى المجتمع، ومن ذلك يبرز دور التخطيط العمرانى فى دعم السلوك الحضرى الصحى والسليم من خلال تصميم يتيح ممارسة السلوكيات الصحية داخل النطاق العمرانى بشكل عام، ويبدو أن قانون الصحة العامة البريطانى عام 1848 كان بمثابة الأساس لمكافحة الأمراض من خلال مبادرات التخطيط العمرانى مثل تطوير نظم الصرف الصحى وجمع القمامة ومكافحة القوارض والبعوض، وتدرجت الاهتمامات المشتركة لحماية البيئة من التلوث كاشتراطات التخلص من نفايات المصانع إلى توفير تهوية وإضاءة جيدة بمناطق السكن إلى منع بعض المواد المضرة أن تدخل فى عمليات البناء كألواح الأسبستوس أو المواسير الرصاص، حتى اختلاف لوائح البناء وتخطيط المدينة ليتناسب ارتفاع المبنى مع عرض الشارع لإعطاء فرصة للتهوية وسقوط أشعة الشمس للأدوار السفلية من العمارات إضافة إلى اتساع الشارع لحركة المرور والتخلص من عوادم السيارات.
***
لقد صار التأكيد على جودة الحياة والاستدامة البيئية كوجهين للعمران الحضرى يكفلان بيئة صحية لإنسان معافى، وتأتى منظمة الصحة العالمية بمبادرة أطلقتها عام 1986 لتطوير المخططات العمرانية بما يدعم متطلبات الصحة العامة، وأطلقت مصطلح «المدينة الصحية» للمقاربة بين الصحة العامة والتصميم العمرانى، وامتدادا لذلك وضعت منظمة الموئل التابعة للأمم المتحدة عام 2005 مبادئ لتخطيط المجاورة السكنية المستدامة، وأكدت على ضرورة إتاحة فرصة لممارسة المشى، فمع النداء بتقليل تداخل طرق السيارات داخل المناطق السكنية نادت بالتوسع فى مسارات المشاة وحارات الوسائل الصديقة للبيئة داخل المنطقة السكنية، إلى أن أوصت بأن تكون أطوال الشوارع والطرق وممرات المشاة والدراجات ومساحاتها لا تقل عن 30% من مساحة المجاورة، ويكاد ينعدم دخول السيارات لقلب المجاورة الذى يخصص للمنتزه وروضة الأطفال وممرات المشى لتريض السكان على مختلف أعمارهم، حتى أن الممشى مصمم فى انحداراته وما يقابلهم من درجات صعود وهبوط مدروسة للحفاظ على لياقتهم وتنشيط الدورة الدموية لكبار السن ويفيد السيدات الحوامل، مع توافر نقاط استراحة وجلسات قراءة.
فماذا إن غزا الدولة وباء أو هوجمت بيولوجيا أو واجهت حربا كيميائية؟ سيكون حجر الزاوية لتفادى أضرارها هو البقاء فى المنازل والأبنية المغلقة، والاعتماد على التواصل عبر شبكة المعلومات الدولية الإنترنت التى لابد أن تعتمد عليها الحكومة فى إنجاز مهامها وتقديم خدماتها للمواطن، مما يستوجب التقدم فى تطبيقات نظم الحوكمة الإلكترونية، كما يعتمد عليها المواطن فى العمل والتعليم والتواصل، وتصبح شبكات الإنترنت هى روح المدينة ويتوقف عليها ضمان سير الحياة، فماذا لو هوجمت تلك الشبكة بفيروس إلكترونى؟ هل يتوافر استعدادات للبدائل كشبكة الإنترانت وهى شبكات إنترنت محلية وشبكة إكسترانت وهى شبكة تنظم عمل عدد من شبكات الإنترانت المترابطة، ويعد وجود تلك الشبكات البديلة أولوية أمن وطنى، هل أعددنا العدة للانتقال إلى بنية المدينة التكنولوجية «Techniــcity»، فهى لا تأخذ ببنية المدينة الذكية فقط وإنما هى مدينة اقتصادية بالمقام الأول توفر فى صيانة الطرق والسيارات واستهلاك البنزين ووسائل الانتقال واستهلاك الورق ولوازم الحفظ والمهمات الكتابية، وتيسر الإجراءات وتوفير الوقت والجهد، كل ذلك مقابل ما قد يتعثر فيه قطاع التعليم والأعمال من جراء التزام المنازل عند مواجهة أى تلوث بيولوجى، ناهيك عما تتكبده الدولة لتنفيذ خطط مواجهة الأزمات والكوارث ودعم المتضررين وقد يصل ذلك إلى عشرات المليارات يمكن توفير جانب كبير منها للتوجه نحو إعادة بناء المدينة المصرية بما يتلاءم، ومتطلبات العصر وتحدياته، فالقادم من أزمات يحتاج لمدينة صحية تكنولوجية ومجتمع صحى مستدام، قادر على مواجهة هجمات أو أوبئة مثل كورونا أو غيرها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved