مصر بين سعد وملنر!

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: الأحد 11 أبريل 2021 - 6:57 م بتوقيت القاهرة

رغم فشل مهمة الوفد المصرى فى باريس حتى قبل أن يصل إلى مؤتمر الصلح، فإن سعد زغلول ورفاقه واصلوا محاولاتهم الدءوبة للضغط على الحكومات الأوروبية من خلال مخاطبة الرأى العام فى فرنسا والولايات المتحدة عن طريق كبار الكتاب والأدباء، إلا أن ذلك لم يغير من الأمر، فبريطانيا ضغطت على جميع القوى الكبرى المشاركة فى المؤتمر من أجل الإقرار بالحماية البريطانية على مصر وقد كان!
فى مايو 1919 ألقى اللورد كريزون خطبة فى مجلس اللوردات البريطانى أكد فيها الحماية البريطانية مشيرا إلى اعتراف الرئيس الأمريكى ويلسون بذلك، ومنوها لخطورة الأوضاع فى مصر إثر انتفاضة 1919 وقدم اقتراحا قبلته الحكومة البريطانية بتشكيل لجنة برئاسة اللورد ملنر يكون هدفها العمل على استقرار مصر وتأكيد المصالح البريطانية بها!
فى هذه الأثناء كانت الحكومة المصرية برئاسة حسين رشدي ــ وقد كان فى ذلك الوقت قد أمضى فى منصبه نحو 5 سنوات شكل فيها أربع حكومات مختلفة ــ تواجه العديد من المصاعب، وخاصة بعد فشلها الاستجابة لمطالب الثوار من الضباط المصريين والمدنيين، فقد طالب الضباط باستبعاد الإنجليز من حراسة الميادين العامة وإسناد المهمة إلى الضباط المصريين، بينما شكل المدنيون من الثوار لجنة سياسية تكونت من 32 عضوا طالبت حكومة رشدى بما يلى: (1) التصريح بصفة الوفد الرسمية، (2) تأكيد الوزارة علانية أن قبولها المسئولية لا يعنى الاعتراف بالحماية البريطانية، (3) الإفراج عن المعتقلين من الثوار، (4) تحويل محاكمات المدنيين من المحاكم العسكرية إلى المحاكم المدنية!
إثر فشل رشدى فى تنفيذ هذه المطالب فقد استقالت حكومته وقررت بريطانيا إسناد المسئولية لمحمد سعيد باشا ليشكل حكومته الثانية بعد أن كان رئيسا لوزراء مصر بين 1910 و1914. يقول بعض المؤرخين إن إسناد المهمة إلى سعيد كانت بهدف الضغط على سعد زغلول وتهميشه خاصة وأن العداوة بين الطرفين كانت معروفة، فكانت بريطانيا تأمل أن يقوم سعيد بتسهيل مهمة لجنة ملنر فى مصر، ولكنها فشلت فى ذلك!
***
فور تولى سعيد باشا المنصب فقد صرح أن حكومته ليست حكومة سياسية ولكنها حكومة إدارية تهدف إلى تسيير أمور البلاد والنظر فى أسباب عدم الاستقرار، ورغم ذلك التصريح الذى هدف على ما يبدو إلى رفع الضغوط عن كاهل الحكومة، إلا أن مهمة الحكومة كانت سياسية بامتياز، حيث قام سعيد بالتفاوض مع بريطانيا من أجل الإفراج عن بعض المعتقلين السياسيين ورفع مرتبات الموظفين وتحويل محاكمات المدنيين من المحاكم المدنية إلى المحاكم العسكرية وإلغاء الرقابة على الصحف، وقد نجح بالفعل فى تحقيق هذه المطالب لكنه لم يحظ أبدا بثقة الثوار الذين اتهموه بتهدئة الأوضاع كمحاولة للالتفاف على المطالبة برفع الحماية وتسهيل عمل لجنة ملنر!
كان وزير المستعمرات البريطانية اللورد ملنر يستعد فى هذه الأثناء للمجيء مع لجنته إلى مصر وأصدر سعيد باشا تعليماته إلى كل المصالح الحكومية بإعداد التقارير والبيانات لتقديمها للجنة، إلا أن معظم القوى المصرية أكدت رفضها للجنة، وأصدر الحزب الوطنى المبدأ المشهور «لا مفاوضة إلا بعد الجلاء»، كما تمسك الوفد بالاستقلال التام، وفى هذه الأثناء تعرض سعيد باشا لمحاولة اغتيال فاشلة، فقرر بعد كل هذه التطورات الاستقالة وخلفه يوسف وهبة باشا الذى حاول أن يفعل ما فعله سعيد من قبله بوصف حكومته بـ«الإدارية» لكن لم يكن ذلك أيضا إلا محاولة للتنصل من مسئولية استقبال لجنة اللورد ملنر!
رفض المصريون حكومة يوسف وهبة ووصفه الثوار بأنه عميل للبريطانيين، وقرر الجهاز السرى لثورة 1919 اغتيال يوسف وهبة وتم إسناد المهمة إلى إحدى فرق الجهاز، إلا أن أحد أعضاء الجهاز السرى وهو عريان سعد اعترض وطلب إسناد مهمة الاغتيال إليه وبرر طلبه بأنه عندما قام الوردانى باغتيال رئيس الوزراء الأسبق بطرس غالى فقد اندلعت أحداث فتنة بين المسلمين والأقباط، إلا أنه إذا قام هو بتنفيذ عملية الاغتيال بنفسه فإن هذا سيبطل الفتنة كون أن عريان سعد ويوسف وهبة باشا كلاهما قبطيان! وقد تحقق لعريان ما أراد بالفعل وتم تكليفه بعملية الاغتيال فقام بانتظار موكب وهبة باشا الذى يمر من أمام مقهى ريش الشهير بوسط البلد وقام بإلقاء قنبلتين على الموكب، إلا أنهما أخطأتا الهدف وتم القبض على عريان سعد ولاحقا تم سجنه لمدة عشر سنوات (من تقرير لسعيد الشحات فى «اليوم السابع» نشر فى 15 ديسمبر 2019«)!
***
وصلت لجنة ملنر أخيرا إلى مصر فى ديسمبر 1919 ورفض الوفد التفاوض مع اللجنة، لأن هذا التفاوض يعنى تحويل مسألة الحماية من قضية دولية إلى قضية ثنائية بين مصر وبريطانيا، ولأن التفاوض مع لجنة هدفها تأكيد الحماية هو فى حد ذاته اعتراف بها! وأجمعت القوى السياسية على أن اللجنة لو أرادت التفاوض فعليها التفاوض مع سعد زغلول الذى كان مازال فى باريس فى ذلك الوقت!
لما وجد ملنر ذلك الرفض الشديد من المصريين فقد حاول التظاهر بالمرونة مطمئنا المصريين بأن هدف لجنته هو التفاوض حول إصلاح السبل لإدارة مصر بشكل دستورى سليم وتحقيق التفاهمات الودية بين البلدين بما يحقق المصلحة المشتركة لهما، مؤكدا انفتاحه على التفاوض مع الشعب المصرى دون تقييد للآراء، ولكن لأنه مرة أخرى لم يتطرق إلى الحماية، ومن هنا فقد أرسل سعد زغلول بيانا إلى الأمة المصرية يحثهم فيها على عدم الاستجابة للجنة أو التفاوض معها (عمر عبدالعزيز، مرجع سبق ذكره)!
لكن بعض الشخصيات ذات الثقل والمقربة من الوفد مثل حسين رشدى وعدلى يكن وعبدالخالق ثروت حاولت إقناع سعد زغلول بالعودة إلى مصر والتفاوض مع اللجنة، ولكن أكد سعد زغلول رفضه مشيرا إلى أنه لن يتفاوض مع اللجنة إلا لرفع الحماية، بينما تريد اللجنة أن تحصر التفاوض فى مسألة «الحكم الذاتى»! فعاد الثلاثى ليؤكد لسعد أن تفسير كلمة الحكم الذاتى لا يعنى استبعاد التفاوض على الاستقلال مؤكدين له أن اللورد ملنر لديه استعداد للتفاوض على الاستقلال التام ولكنه لا يستطيع البوح بذلك علانية، لكن أكد سعد رفضه مرة أخرى، فلا تفاوض إلا على الاستقلال!
أمام هذا الإصرار الشعبى والسياسى على مقاطعة اللجنة، قررت الأخيرة أن تنهى مهمتها فى مصر وتعود إلى بريطانيا فى مارس 1920، أى بعد ثلاثة أشهر فقط من قدومها، وتأكد ملنر من أن عمل لجنته لن ينجح إلا عن طريق التفاوض مع سعد، فطلب من عدلى يكن التوسط مرة أخرى لدى سعد، ولما كان الأخير قد أدرك أن مؤتمر الصلح لن يعطى لمصر أى حقوق، فقد سافر إلى لندن ومعه باقى أعضاء الوفد فى باريس!
قدم ملنر إلى سعد عرضا يعلن فيه استعداد بريطانيا «تنظيم الحماية التى تؤدى إلى استقلال مصر» وفى مقابل هذا الوعد المبهم طلب اعتراف سعد بالامتيازات البريطانية فى مصر مع القبول بالإبقاء على قوات عسكرية بها وتعيين مستشار مالى بريطانى وتنظيم علاقات مصر الخارجية! رفض سعد هذا العرض، وقدم مقترحا بديلا وافق فيه على تعيين المستشار المالى البريطانى وعلى الاعتراف بالامتيازات البريطانية فى مصر وعلى تأجيل التفاوض بخصوص مسألة السودان ولكنه رفض بقاء القوات العسكرية البريطانية فى مصر مع قبول وجود قوة محدودة فى منطقة القنال تستمر لمدة 10 سنوات على أن يعاد التفاوض بشأن وضع هذه القوات بعد المدة المحددة، وفى مقابل ذلك طلب سعد اعترافا بريطانيا بالاستقلال التام لمصر وبسيادتها غير المنقوصة فى سياستها الداخلية والخارجية وبتعهد بريطانيا الدفاع عن مصر حال تعرض الأخيرة لأى اعتداء، ورفض ملنر العرض مجددا فتوسط عدلى يكن من جديد وحاول ملنر تعديل العرض بتغيير بعض الألفاظ ولكن دون تقديم أى وعد صريح بإنهاء الحماية، فأرسل سعد تحفظاته على العرض الجديد لأنه لا يضمن المطلب الأساسى لمصر وهو الاستقلال!
***
عاد سعد إلى مصر وتم استقباله بحفاء شديد من المصريين كبطل قومى، وواصل عدلى يكن محاولات التوسط، فرأى أغلب أعضاء الوفد أن يتم تفويض يكن للتفاوض مع ملنر وتم التصويت فوافقت الأغلبية الوفدية، إلا أن سعد ومعه سنيوت حنا وواصف غالى أصروا على الرفض، فقد كان رأى سعد أن تصويت الوفد بالأغلبية لا يهم طالما أن باقى تيارات الأمة تعارض عمل اللجنة، فسعد رأى أنه يمثل الأمة المصرية وليس فقط الوفد، ومن ثم فإن إجماع الأمة لا أغلبية الوفد هو من يجب الاستناد إليه فى الموقف من ملنر ولجنته!

أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved