مغزى التغير والاستمرار على قمة وزارة الخارجية

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الثلاثاء 12 أبريل 2022 - 12:52 م بتوقيت القاهرة

تصوروا عزيزاتى وأعزائى القارئات والقراء أن عنوان هذا المقال كان عن مغزى التغير والاستمرار فى الوزارات المصرية. لا شك أن ذلك كان سيصيبكن ويصيبكم بالدهشة؟ فمن الذى يجرؤ على الإجابة عن هذا السؤال الصعب، فأوضاع الحكومة المصرية فى هذا الشأن لا تتسم كثيرا بالشفافية، وأذكر أن وزيرا سابقا طُرح عليه سؤال مماثل، وكان جوابه أنه لا يعرف لماذا دخل الحكومة ولماذا خرج منها، وأظن أنه كان يعبر بذلك عن كثيرين ممن مروا بذات التجربة، ولكن عندما يتعلق الأمر بمنصب وزير الخارجية، فنحن محظوظون، فأغلب من تولى وزارة الخارجية منذ ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ قد ترك مذكرات يجيب فيها عن هذا السؤال، كما أن بعضا من السفراء البارزين دون خبرته فى كتب ذاعت، وتعرضوا فيها لتفاصيل ربما شاء بعض الوزراء السكوت عليها أو إغفالها، أو ربما كانوا من القلة التى لم تكتب مذكراتها. طبعا منصب وزير الخارجية منصب حساس، وقد يتحرج بعض الوزراء السابقين من كشف بعض أسرار علاقاتهم برئيس الدولة الذى وضعهم على قمة الوزارة، وأخرجهم منها أو دفعهم إلى الاستقالة. ولكن عملية العولمة أتاحت لهم أن ينشروا مذكراتهم خارج مصر، ثم توافرت للمصريين والمصريات بعد سنوات داخل مصر بعد أن رحل رئيس الدولة الذى قضوا شهورا أحيانا أو سنوات إلى جانبه. ولا أعرف فى الحقيقة وزارة أخرى يتوافر لنا هذا القدر من التفاصيل عن عملها على أعلى المستويات. هذا لا ينطبق فقط على وزارتى الدفاع والداخلية باستثناءات محدودة، ولكنه ينطبق على كل الوزارات الأخرى الموصوفة بغير السيادية. ولذلك فهذا القدر من المعرفة بما جرى على قمة وزارة الخارجية يكشف لنا بعدا مهما عن علاقة رئيس الدولة بوزرائه فى العهد الجمهورى. وقيمة هذه المعرفة أنها تمكّن الباحثين والباحثات والرأى العام من أن يعرف إلى أى مدى تسود الرشادة فى عملية صنع القرار فى مصر، وما إذا كان القرار الذى يتخذ على أعلى المستويات ناجما عن مشاورات واسعة مع المختصين بموضوع القرار، أم أن رئيس الدولة لا يقبل حوله إلا من يسلمون بداية بصحة تحليله لشئون الدولة فى كل المجالات، وأن ما يراه دائما هو الصواب والرأى المبين.
والقيمة الفريدة التى تميزت بها وزارة الخارجية أننا نعرف يقينا أن بعض وزرائها استقالوا لخلاف مع رئيس الجمهورية حول توجهاته السياسية وفى قضايا تمس أمن مصر القومى، وأن بعض كبار معاونيهم شاركوهم نفس الرأى، أظن أننا لم نسمع ذلك عن أى وزارة أخرى. وإذا كان من الممكن أن نعرف لماذا خرج بعض وزراء الخارجية، فإن أحد الاستنتاجات المنطقية سيجيبنا عن النصف الثانى من السؤال، وهو لماذا بقى بعضهم فى مناصبه سنوات عديدة واستقر فيها رغم أن سياسة مصر الخارجية عرفت فى ظل وجوده تحولات هامة أو تحديات كبيرة لم تنجح تماما فى التعامل معها.
واستنادا إلى ما كتبه بعض قيادات وزارة الخارجية، وأخص هنا ما كتبه السفير السابق عبدالرءوف الريدى والسيد عمرو موسى والوزير السابق نبيل فهمى فإنه يمكن تصنيف أسباب الخروج من الوزارة إلى الاستقالة فى حالات المرحومين اسماعيل فهمى ومحمد رياض (١٩٧٧)، ومحمد إبراهيم كامل (١٩٧٨)، والخروج من المنصب بعد إعادة تشكيل الوزارة لعدم التجاوب بين الرئيس ووزير الخارجية فى حالتى محمود رياض (سبتمبر ١٩٧٢) وربما الدكتور مراد غالب (مارس ١٩٧٣) أو عدم توفيق الوزير فى الاستجابة لتطلعات رئيس الجمهورية، كما أظن أنه كان هو حال كل من الدكتور محمد حسن الزيات (سبتمبر ١٩٧٤) والمرحوم أحمد ماهر (ديسمبر ٢٠٠٥)، أو أنه رغم هذا النجاح فقد غابت الكيمياء بين الوزير وبعض كبار العاملين فى الدولة، وتلك فى تقديرى كانت حالة الوزير السابق نبيل فهمى، أما المحظوظون من الوزراء السابقين فهم من خرجوا من منصب وزير الخارجية إلى منصب أعلى وهو ما حدث لكل من الدكتور عصمت عبدالمجيد وعمرو موسى والدكتور نبيل العربى وأخيرا أحمد أبو الغيط والذين انتقلوا من وزارة الخارجية إلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وإن كان هذا الانتقال قد حدث بعد فترة كمون فى الظل كما يقولون للسيد أحمد أبو الغيط، والتى فاجأته وهو وزير للمرة الثانية فى حكومة مبارك الأخيرة التى شكّلها الفريق أحمد شفيق. فلنتأمل قليلا فى بعض هذه الحالات، ونحاول التعرف على مغزاها الواسع من حيث مدى تنوع الآراء فى الفريق المحيط بالرئيس.
الذين استقالوا
كانت المناسبة التى أدت إلى استقالة الوزراء الثلاثة فى عامى ١٩٧٧، ١٩٧٨ هى عزم الرئيس السادات زيارة القدس لعرض مشروعه للسلام على الحكومة الإسرائيلية ضاربا عرض الحائط بلاءات قمة الخرطوم الثلاث بأنه لا اعتراف ولا مفاوضات ولا صلح مع إسرائيل قبل جلائها عن كل الأراضى المحتلة. كان موقف اسماعيل فهمى ومحمد رياض أن ذلك تنازل كبير فى مواجهة إسرائيل لا يقابله مكسب مؤكد للجانب العربى، وكان موقف محمد إبراهيم كامل أن مفاوضات كامب دافيد التى انفرد بها الرئيس السادات دون علم فريق الخارجية الذى كان معه فى كامب دافيد سوف تنتهى إلى تسوية مصرية إسرائيلية تخرج بها مصر عن دائرة التضامن العربى وتضعف موقف الفلسطينيين وسوريا، وكان هذا هو موقف أعضاء فريق وزارة الخارجية الذين صاحبوا الرئيس إلى كامب دافيد والذى ضم السفراء الدكتور نبيل العربي مدير الإدارة القانونية، والسفير عبد الرؤوف الريدي مدير التخطيط الاستراتيجي والسفير أحمد ماهر مدير مكتب وزير الخارجية والسفير أسامة الباز والمستشار أحمد أبو الغيط السكرتير الخاص للوزير، وكان الوحيد الذى على علم بما يدور فى المفاوضات هو المرحوم أسامة الباز والذى كان يقوم بصياغة ما يتفق عليه الرئيس السادات مع الإسرائيليين والأمريكيين، ولذلك استقال محمد إبراهيم كامل ورفض أعضاء وفد الخارجية المشاركة فى حفل توقيع اتفاق كامب دافيد فى البيت الأبيض فى سبتمبر ١٩٧٨. ليس هنا مجال تقييم اتفاق كامب دافيد ولا معاهدة السلام التى أعقبتها فى 27 مارس ١٩٧٩، ولكن المؤكد أن المخاوف التى أعرب عنها المستقيلون وشاركهم فيها أعضاء وفد الخارجية هى بالفعل ما تحقق. طبعا كسبت مصر استعادة شبه جزيرة سيناء والجلاء الكامل للقوات الإسرائيلية عنها فى مقابل تطبيع العلاقات كاملة مع إسرائيل. ولكن تواصل انهيار سد التضامن العربى الذى حققته مصر وسوريا والسعودية أثناء حرب أكتوبر، وانفتح الباب على مصراعيه تدريجيا أمام الهيمنة الإسرائيلية على أحوال الوطن العربى، وليس فقط على الدول المحيطة بها مثل سوريا ولبنان والأردن.
الذين خرجوا لعدم تجاوبهم مع توجهات الرئيس
لاشك أن تلك كانت حالة المرحوم محمود رياض الذى استمر فى موقعه وزيرا للخارجية بعد رحيل الرئيس عبدالناصر فى سبتمبر ١٩٧٠، ووفقا لما ذكره هو فى مذكراته وما رواه السفير عبدالرءوف الريدى، فإنه قد فوجئ بطرح الرئيس السادات فى فبراير ١٩٧١ خطته بدعوة إسرائيل إلى الجلاء جزئيا عن شريط من الساحل الشرقى لقناة السويس تمهيدا لافتتاح قناة السويس واستمرار المفاوضات بعد ذلك لضمان جلاء قواتها عن بقية سيناء، وهو ما رأى فيه تمهيدا لصلح منفرد مع إسرائيل، وتجريد مصر من أحد أدوات الضغط التى كانت تملكها حينئذ وهو استمرار إغلاق قناة السويس فى وجه الملاحة العالمية. كما نقل الرئيس قسما من الشأن الخارجى بعيدا عن وزارة الخارجية بتعيين المرحوم حافظ اسماعيل مستشارا لرئيس الجمهورية لشئون الأمن القومى فى مارس ١٩٧١، وخرج محمود رياض من وزارة الخارجية بموجب تعديل حكومى فى ١٢ سبتمبر ١٩٧٢ انتقل معه إلى منصب شرفى وهو مستشار لرئيس الجمهورية.
وكان ثانى الذين خرجوا لعدم تجاوب مع سياسات الرئيس هو المرحوم الدكتور مراد غالب. ورغم أن أحدا لم يذكر سبب خروج مراد غالب فى ٢٦ مارس ١٩٧٣ إلا أنه وهو السفير السابق فى موسكو وصاحب العلاقات الوطيدة مع نجوم النخبة والمجتمع السوفيتى وصلته الوثيقة قبل ذلك بالرئيس جمال عبدالناصر، وأضيف اعتمادا أيضا على معرفتى به أن وجوده لم يكن ملائما إلى جانب الرئيس السادات الذى كان يعد العدة لطرد الخبراء العسكريين السوفييت من مصر ويسعى لفتح قنوات للتواصل مع هنرى كيسنجر الذى كان مستشار الرئيس الأمريكى نيكسون للأمن القومى وأضاف إليه بعد ذلك منصب وزير الخارجية، وتواصل معه الرئيس السادات من خلال المرحوم حافظ اسماعيل.
أسباب أخرى للخروج
تضيف كتابات كبار رجال قادة الخارجية السابقين أسبابا أخرى للخروج، أجملها بعدم توفيق الوزير فى تلبية تطلعات الرئيس، فعلى سبيل المثال يذكر السفير عبدالرءوف الريدى أن الدكتور محمد حسن الزيات وزير الخارجية (مارس ١٩٧٣ــ سبتمبر ١٩٧٤) ارتأى أن يظل فى نيويورك فى أكتوبر ١٩٧٣ يواصل مهمته فى الأمم المتحدة فى حشد الدول الأعضاء تأييدا لمصر بينما كان يدير وزارة الخارجية فى القاهرة المرحوم السفير اسماعيل فهمى الذى عيّنه الرئيس السادات مؤقتا فى غياب الزيات، ويضيف الريدى أن وزير الخارجية السورى عبدالحليم خدام والذى كان موجودا فى نيويورك آثر العودة إلى دمشق ليكون بجوار الرئيس حافظ الأسد فى مواجهة تداعيات الحرب، وعندما أراد السادات التواصل المباشر مع الرئيس الأمريكى أثناء الحرب فقد كان مبعوثه إلى البيت الأبيض هو المرحوم اسماعيل فهمى بينما كان الزيات مازال فى نيويورك، وخرج الزيات فى تعديل وزارى لاحق.
مثل آخر ضربه السيد عمرو موسى فى مذكراته عن المرحوم أحمد ماهر والذى كان وزيرا للخارجية (يوليو ٢٠٠١ــ ديسمبر ٢٠٠٥) وأخفق فى نيل تأييد الوفود العربية فى مؤتمر القمة العربية الذى عقد فى تونس فى ٢٠٠٤ لمشروع كان الرئيس مبارك يعلق عليه أهمية كبيرة، بينما فاز المشروع التونسى البديل بالتأييد ويرجح أن ذلك كان سبب حنق الرئيس عليه واستبداله بأحمد أبو الغيط لاحقا.
وعلى العكس من ذلك، فقد وفق نبيل فهمى فى المهام الصعبة التى واجهها فى إدارة علاقات مصر الدولية بعد الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين فى يونيو ٢٠١٣ وتمكن من جعل الحكومات الغربية على الأقل تتفهم دواعى التحولات التى جرت بمصر، ومع ذلك لم يبق طويلا فى منصبه وخرج منه فى 14 يونيو 2014، ونظرا لعدم وجود أى تفسير لهذا الخروج المبكر لا يبقى أمامنا سوى أن نخمن أن يكون السبب هو غياب «الكيمياء الشخصية» مع الأجهزة الأخرى المنشغلة بإدارة سياسات مصر الخارجية.
أزمة وزير الخارجية فى نظام رئاسى
لاشك أن الرئيس فى ظل نظام رئاسى هو المسئول الأول عن صنع السياسة الخارجية لدولته يعاونه فى ذلك وزير الخارجية، والذى يجب أن يعتبر المسئول الثانى إلى جانب الرئيس يقدم له المشورة، ويترجم ما يتفقان عليه إلى دبلوماسية نشطة وفعالة. ولكن ما هى حدود حرية الرأى المتاحة للوزير؟ الوزير محمد رياض الذى كان وزير دولة للشئون الخارجية فى نوفمبر ١٩٧٧، وعرض عليه حسنى مبارك ــ نائب الرئيس فى ذلك الوقت ــ منصب وزير الخارجية، فقد منصبه الأصلى عندما أبدى تحفظا على فكرة زيارة السادات للقدس. وماذا يفعل الوزير عندما يختلف مع الرئيس فى قضية تمس صميم الأمن القومى ولسنوات قادمة؟ ألا يتسع النظام السياسى حتى ولو كان رئاسيا لمشاورات واسعة قبل اتخاذ القرار ليخرج على نحو أكثر رشادة وأكثر مراعاة للأمن الوطنى؟ حسنا فعل الوزراء الثلاثة المستقيلون فقد شاءوا ألا يتحملوا المسئولية عن سياسة قدروا أنها تهدد الأمن الوطنى والقومى، وتجاوب معهم فى ذلك كبار قيادات وزارة الخارجية، ولذلك لم يجد الرئيس السادات من يديرها فى تلك المرحلة الحاسمة سوى شخصيات من خارج الوزارة مثل المرحوم الدكتور بطرس بطرس غالى ثم الدكتور مصطفى خليل. وقد تلقى كل من شغلوا هذا المنصب منذ عهد الرئيس حسنى مبارك هذا الدرس، فإما التسليم بكل ما يراه الرئيس أو التضحية بحلم مقعد الوزير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved