(أخطاء الإخوان) فى مائة يوم من عمر مجلس الشعب
طارق البشرى
آخر تحديث:
الجمعة 11 مايو 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
(1)
مضى أكثر من مائة يوم على تولى مجلس الشعب السلطة التشريعية، وهو مؤسسة انتخبت انتخابا حرا ونزيها وعبرت عن إرادة شعبية حقيقية، وبموجب هذه الإرادة حصل حزب الحرية والعدالة المتفرع من جماعة الإخوان المسلمين والمعبر عنها، على 47٪ من مقاعد المجلس، وحصل الاتجاه السلفى ممثلا فى حزب النور على نحو 25٪ من المقاعد، ثم تبعه حزب الوفد بنحو 10٪ من المقاعد ثم غيره من الأحزاب. وقد سيطر تقريبا حزب الأكثرية على أكبر عدد من رئاسات وعضوية مكاتب المجلس ولجانه، وظهر ظهورا عاما بحسبانه المسيطر على المجلس وأن فى يده توجيه سياساته، إلى حد أنه طالب بإسقاط الحكومة وحلول من يرضى عنهم محلها وفقا لمشيئته واختياره، واعتبر فى سلوكه السياسى هذه المسألة هى أهم المسائل التى ينشغل بها، ويجب أن ينشغل بها الناس والمواطنون. ونحن يتعين علينا أن نلقى نظرة إجمالية فيما جرى فى هذا الجانب خلال المائة يوم الماضية.
(2)
لقد أمكن لنواب مجلسى الشعب والشورى فور انتهاء انتخابهم، أن يستخدموا سلطتهم الدستورية فى اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية التى يناط بها دستوريا إعداد الدستور الجديد وطرحه على الاسفتاء. وكان يمكن لهذا الاختيار أن يصمد كله أو جله أمام الرأى العام المصرى لو ركز مجلس الشعب نشاطه فى هذا الأمر الجوهرى دون أن يفتح معارك أخرى قبل إنجاز ما فعل، ولكنه فتح معركة وجوب استقالة الوزارة ليحل رجاله وقادة حزب الأكثرية محلها، وضغط مجلس الشعب على المجلس العسكرى ليفرض مشيئته ليقيل الوزارة ويشكل وزارة جديدة يرضى عنها حزب الحرية والعدالة لمدة لا تزيد على بضعة أسابيع التى ينتخب فيها رئيس الجمهورية، ويتسلم السلطة كلها قبل 30 يونيو. كما أن حزب الأكثرية البرلمانية أصر على استعراض قوته والتضخيم منها ليسرع فى امتلاك زمام الدولة، وأنه هو من يقرر شئون الدولة، وإن كان ذلك فى نطاق أشهر قليلة جدا مع الاقتراب من نهاية الفترة الانتقالية.
وقد استدعى هذا الصنيع العجيب منه أن تتكتل ضده كل القوى السياسية العاملة فى المجتمع المصرى سواء القوى الموجودة داخل أجهزة الحكم أو القوى المؤثرة فى الإعلام أو غيرها من القوى ذات التأثير الشعبى وصياغة الرأى العام، استدعى ذلك تكتيل كل هذه القوى لمقاومة تشكيل الجمعية التأسيسية ولإفشال مسعى المسيطرين على مجلسى الشعب والشورى فيما يملكون من سلطات فى هذا التشكيل. أى أن القوى الأخرى لم تكتف بمقاومة طموح حزب الحرية والعدالة إلى السلطة، لكنها هاجمته فى الساحة ذاتها التى يملك إمكان التعبير عن نفسه فيها، وهى تشكيل الجمعية التأسيسية. وجاءت النتيجة أن ضربت الجمعية التأسيسية المشكلة وفشل تشكيلها، وجاءت عبرة هذا الدرس أن الجماعة المسيطرة على مجلس الشعب التى لا تملك أكثر من 47٪ من مقاعد بالغت فى تقدير قوتها إزاء قوى سياسية أخرى ذات وجود ظاهر فى أجهزة الدولة والإعلام والنخب، وطمحت هذه الجماعة فى بلوغ ما لا تستحقه ولا تستطيع السيطرة عليه، وهو جهاز الدولة ففقدت ما تستحقه، وهو تشكيل الجمعية التأسيسية. أى أنها رغبت فيما ليس من حقها ففقدت ما هو من حقها.
(3)
ثم جاءت بعد ذلك ترشيحات رئاسة الجمهورية، وما لبث حزب الحرية والعدالة بعد تردد ملحوظ وتباطؤ فى التقرير، أن رشح مرشحيه، واستقر بعد ذلك على المرشح الثانى منهما بعد استبعاد الأول، وكان هذا استعمالا لحق الحزب طبعا فى التقدم للترشيح، وقد هوجم هذا الصنيع من تيارات سياسية كثيرة، وكان هجوما غير صائب ولا عادل. لأنه لا يكاد ينكر أحد أن تنظيما سياسيا لديه الحجم الأعلى من مقاعد مجلسى الشعب والشورى يحق له أن يتقدم بمرشحه للرئاسة، وثمة مرشحين مستقلين وثمة مرشحين من أحزاب ليس لها فى مجلس الشعب إلا مقعد واحد. وإذا كان حزب الحرية والعدالة قد عدل بهذا الترشيح عن سياسة سابقة أعلنها وهى عدم تقديمه مرشحا منه للرئاسة وفصل من خالف ذلك من زعاماته الذين أصروا على الترشيح، إذا كان ذلك فإن هذه سياسته، ومن حقه أن يعدل عما اتخذه من قرارات سابقة إذا رأى ما يعدل موقفه، ومن حقه أن يضبط الانتماء التنظيمى بداخله الزاما لأعضائه بقراراته ما داموا يعملون من داخله، وهذا ما يصنعه أى تنظيم سياسى، يمكن أعضاءه من إبداء رأيهم بداخله ثم يلزمهم بما يتخذ من قرارات فى مواقعهم خارجه.
هذه المسألة لا تتعلق بمجلس الشعب موضوع هذا المقال ولكن ما استوجب منى ذكرها فى هذا السياق، هو ما تلى ذلك من أحداث تعرض لها المجلس. فإن الفريق أحمد شفيق المرشح للرئاسة كان من المقربين لحسنى مبارك، وتولى الوزارة فى عهده وعُيّن رئيسا للوزراء قبيل خلع حسنى مبارك. ثم رشح للرئاسة اللواء عمر سليمان رئيس المخابرات السابق فى عهد حسنى مبارك وشريكه فى مسئولية الحكم وسياساته، وقد أثار هذا الترشيح الأخير ضجة ثورية هائلة، وأن كل من يؤيدون ثورة 25 يناير ومن يحرصون على تأمينها وإنجاحها وأنا واحد منهم إنما يفعلون كل ما فى وسعهم لإزاحته قانونيا وتشريعيا وسياسيا، لكن ما حدث فى إطار هذه الضجة من مجلس الشعب كان يستوجب التوقف كثيرا.
لقد طالبنا من قبل بأن تجرى محاكمة المسئولين عن نظام مبارك محاكمة سياسية لتوقع عليهم عقوبات سياسية، وأن يعزلوا سياسيا عن ممارسة العمل العام. ولكن هذا المسعى الثورى لم يصدر فى حينه، ولم يتحرك مجلس الشعب بعد ممارسته سلطته التشريعية لإنجاز هذا الأمر العام. ولم يفعل ذلك إلا بعد أن ترشح من حزب الحرية العدالة من دخل فى التنافس على رئاسة الدولة فى الانتخابات المقبلة. ومن ثم فإن فكرة «العزل السياسى» فقدت عموميتها وتجريدها اللازمين لأى عمل قانونى تشريعى صحيح. لأن قانون العزل السياسى فى هذه الأثناء إنما يعنى أن الحزب المسيطر على الأغلبية البرلمانية يلجأ لسلطة التشريع، ويستخدمها لا من أجل صالح عام فقط، ولكن من أجل إزاحة منافسين لمرشحه على رئاسة الجمهورية. لقد كان يمكن لحزب الحرية والعدالة أن يقف فى الانتخابات ضد عمر سليمان أو أحمد شفيق ويسقط أيا منهما لسوابق عملهما مع حسنى مبارك، ولما يتمتع به حزب الحرية والعدالة من شعبية. ولكنه لم يلجأ للعمل السياسى وفنونه واستخدم سلطة المجلس التشريعى ليصدر تشريعا يزيح به خصوما سياسيين له فى معركة حامية الوطيس الآن. وبدا الحزب بذلك أنه قلق خائف من منازلة خصم منافس له فى الانتخابات فى المجال السياسى، وهو عمر سليمان ومن بعده أحمد شفيق، رغم ما هما فيه من وهن سياسى وشعبى. ولكن الأكثر خطورة من ذلك أن الحزب استخدم السلطة التشريعية فى تحقيق مكاسب ذاتية خاصة تتعلق باستبعاد مرشح ينافس مرشحه فى الانتخابات. وهذه واحدة من أخطر ما تنحرف به السلطة التشريعية فى ممارستها لسلطاتها الدستورية وأدائها وظيفتها القانونية التى تحتم عليها أمانة الولاية العامة ألا تستخدم إلا فى صالح وطنى عام بتشريعات منزهة عن الشخصية ومتّصفة بما يلزم أن يتصف به القانون دائما من صفتى العموم والتجريد.
(4)
ثم تجىء المسألة الثانية، فقد كانت المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة قد نظرت دعوى تتعلق بعدم قانونية تشكيل مجلس الشعب، بسبب أن القانون الذى انتخب المجلس على أساسه كان قد خص ثلثى مقاعد المجلس لانتخاب القوائم الحزبية التى لا يشغلها إلا أعضاء الأحزاب، ولم يخصص الثلث الباقى للمواطنين من غير الحزبيين بل أشرك الحزبيين معهم فى الترشح، وقد قررت المحكمة إحالة الدفع بعدم دستورية هذا القانون إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى هذا الشأن.
ثم إن اللجنة العليا المشرفة على انتخابات رئاسة الجمهورية التى وصفها الإعلان الدستورى فى حكم مستفتى عليه شعبيا بأنها لجنة قضائية، وهى تتشكل من قمم رجال القضاء فى مصر وبحكم وظائفهم السامية، كانت قد أحالت إلى المحكمة الدستورية بوصفها لجنة قضائية أمر الفصل فى مدى دستورية التعديل الذى أدخل على قانون مباشرة الحقوق السياسية والمتعلق بعزل بعض من تولوا سابقا وظائف رئيسية فى الدولة والحزب الذى كان حاكما، بعزلهم من مباشرة حقوقهم السياسية لمعرفة مدى إمكان ترشحهم لمنصب الرئيس، وأحمد شفيق هو ممن ينطبق عليه هذا النص.
ويبدو واضحا من الواقعتين السابقتين أن مجلس النواب معروض أمر صحة تشكله ووجوده على المحكمة الدستورية العليا بدعوى تتعلق بمدى دستورية القانون الذى تشكل على أساسه، وأن أكثرية هذا المجلس المسيطرة على قراره لها مرشح حزبى فى انتخابات الرئاسة يتنافس معه من ينطبق عليه قانون العزل السياسى إن صحت دستوريته. ومن ثم فالحزب ذو الأكثرية بمجلس الشعب مشتبك فى نزاع قضائى مؤثر على مصالحه فى دعويين أمام هذه المحكمة.
وفى هذا الظرف عرفت من برنامج تليفزيونى بقناة الجزيرة يوم الأربعاء 2 مايو 2012، ما ذكره رئيس مجلس الشعب لمقدم البرنامج الأستاذ أحمد منصور، من أن أحد أعضاء مجلس الشعب قدم مشروع قانون لإعادة تشكيل المحكمة الدستورية، وأنه أحال المشروع إلى اللجنة التشريعية بالمجلس لدراسته، وهذا الأمر شاهدته بنفسى. كما ورد بصحيفة «المصرى اليوم» بعدد السبت الموافق 5 مايو 2012 أن الأستاذ كارم رضوان عضو مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين ذكر أن مطالب الإخوان فى مظاهرات اليوم السابق (الجمعة) كان ضمنها طلب تغيير رئيس المحكمة الدستورية العليا «وبرر رضوان طلب إعادة تشكيل المحكمة الدستورية بأن رئيس المحكمة هو المستشار فاروق سلطان الذى رأس فى الوقت نفسه لجنة الانتخابات، وأن رئاسته لم يعد الشعب يثق فيها»، كما ذكر ذات الخبر فى ذات الصحيفة أن الدكتور أحمد أبوبركة المستشار القانونى لحزب الحرية والعدالة التابع للجماعة قال «إن الحزب يطالب بإعادة تشكيل المحكمة الدستورية العليا بسبب ما سماه وجود ملاحظات عليها منذ أكثر من عشر سنوات، ومنها تعيين رؤسائها من خارجها...» وأن إعادة تشكيل المحكمة يعنى ضرورة تغيير رئيس لجنة الانتخابات الرئاسية.
وهكذا فإن حزب الحرية والعدالة، يريد أن يستخدم أكثريته فى مجلس الشعب وسيطرته على المجلس، يريد أن يستخدم هذه السلطة التشريعية لتحقيق مكاسب حزبية ذاتية، تأثيرا على المحكمة الدستورية وضمانا لبقائه ودعما لمرشحه فى الرئاسة، وهو ورجاله لا يدركون ما فى قولهم وأقوالهم من عدوان صارخ على السلطة القضائية وتهديد لواحدة من كبرى هيئاتها.
إنه يمارس بذلك خطيئتين، أولاهما أنه يستخدم السلطة التشريعية لا للصالح الوطنى العام، ولكن للصالح الذاتى لحزبه ولأفراد معدودين. وهذا انحراف فى استخدام السلطة التشريعية لا يعادله انحراف آخر. وثانيتهما انه يريد تغيير هيئة قضائية معروض عليها أمره بوصفه خصما فى دعوى، ويهدد بذلك استقلالية السلطة القضائية عن الهيئة التشريعية، وهو فى أضعف الحالات يهدد السلطة القضائية وهيئة بها تنظر دعواه بأنه سيغيرها تهديدا لها أثناء نظر دعوى هو خصم فيها. إننى كقاضٍ سابق أكاد أصرخ واستصرخ الآخرين ضد هذا السلوك وأفعل ذلك إبراء للذمة أمام الله سبحانه.
(5)
ومن حيث التقدير السياسى، فإن ما يفترض أن يشغل بال رجل السياسة أو أى تنظيم سياسى فى مسلكه الواقعى، هو أن يقرر مدى قوته إزاء قوة كل من الآخرين وما أدوات القوة السياسية التى يحوزها مقارنة فى أثرها بأدوات القوة السياسية التى يملكها كل من الآخرين، ومدى استطاعته الفعلية إزاء ما يطرح من أهداف آنية يخوض بها معارك السياسة الحالية والقائمة فى اللحظة التى يحياها ويحسب حسابها.
ونحن نلحظ أن حزبا كل علاقته بالسلطة السياسية أنه صار يحوز 47٪ من مقاعد مجلس الشعب المختص بإصدار التشريعات ومراقبة نشاط الحكومة، وليس له أى موقع مؤسسى آخر يمكنه منه أن يملى سياسته ويطرحها للتنفيذ الفعلى، وهو يحوز نسبة مرجوحة من الناحية العددية وإن كانت الأكثر نسبيا، وفى مجلس ليست له أية إمكانات للتنفيذ بحكم تخصصه، وصلته بالرأى العام صلة ذات اعتبارلكنها ليست كافية ولا راجحة إزاء القوى السياسية الأخرى فى مجالات السلطة أو التنفيذ أو الإعلام أو الأعمال. إن تنظيما هذه قوته يتخذ من المطالب ما يجعله يطلب السيطرة على موازين الحكم وأجهزته ومؤسساته، سواء السلطة التنفيذية أو الأجهزة المسيطرة على المعلومات وعلى الحركة وذات الصلة بدوائر النفوذ فى المجتمع والإعلام، إنه بذلك يعوزه الكثير من الخبرة السياسية ليستطيع الوصول إلى تقديرات تكون أقرب إلى الصواب وأبعد عن الشطط.
ومثال على ذلك أيضا أن الحزب ساق مجلس الشعب ليرفض البيان الذى قدمته حكومة تشغل منصبها فى فترة انتقالية محددة بنهاية آخر شهر يونيو. هذا البيان الذى قدمته الحكومة من أكثر من شهرين اشتمل على برنامج اقتصادى يصلح خطوطا محددة لخطة استراتيجية لإحياء الاقتصاد المصرى وإعادة بنائه فى طريق التنمية المستقلة التى هى عماد السياسة الوطنية المستقلة. وقد رفض مجلس الشعب البيان بمجرد إلقاء مختصر شفهى عنه من رئيس الوزراء وقبل أن يقرأ النواب تفاصيله التى ملأت خمسين صفحة، وظل المجلس يناقش بيان حكومة تمضى شهورا معلومة ومحدودة ظل يناقشه لمدة شهرين من الأشهر الخمسة المحددة لها من بدئها إلى آخر يونيو، ثم رفضه مكررا رفضه السابق.
ونحن نقرأ عن سعى الحزب ودعوته إلى الاستفادة من تجارب شعوب أخرى فى بناء اقتصادها، مثل سنغافورة وماليزيا وتركيا وجنوب أفريقيا. وهى دعوة لا شك فى فائدتها، ولكن كنت أرجو أن يضم فى دراسة هذه التجارب، دراسة تجربة تنمية أخرى هى تجربة مصر، سواء قبل ثورة 23 يوليو 1952، أو بعد قيام هذه الثورة، وأن لدينا جهاز تخطيط دارس لشئون مصر ومحاولات بناء اقتصادها المستقل ومارس المجتمع هذا البناء سنين طويلة، أليس هذا من تاريخنا ومن تجربة وطننا ومن خبرة علمائنا والعاملين فى أجهزة إدارة الدولة المصرية. ويتعين أن نلحظ أن تجارب جنوب شرق آسيا سمحت بها الولايات المتحدة لتواجه بها الصين، كما سبق أن سمحت بتجربتى اليابان وألمانيا الغربية لتواجه بهما الاتحاد السوفييتى، وأن مصر على العكس تصادف عرقلة حقيقية لتجربة نموها المستقل من جانب الولايات المتحدة ودعما من أمريكا لإسرائيل كما هو معروف. لذلك فإن لنا تجارب يجب أن ندرسها وأن نستدعيها قبل ما ندرس وما نستدعى من تجارب الآخرين.
(6)
وثمة أمر آخر نلحظه من المقارنة بين وقائع وأحداث الشهور الأخيرة. لقد كانت الفترة الانتقالية مقدرا لها أن تنتهى بفوات ستة أشهر من تنحى الرئيس مبارك، وأن تنتهى بشكل نظامى لتتسلم السلطة مؤسسات ديمقراطية منتخبة انتخابا حرا مباشرا ونزيها، بدءا بمجلس الشعب ثم مجلس الشورى ورئاسة الجمهورية وتشكيل الجمعية التأسيسية التى تعد مشروع الدستور، وكل ذلك خلال مواعيد ووفق برنامج مرسوم. ولكن القوى غير النظامية فى الجانب الثورى، وأقصد بها ما ليس لها تنظيمات شعبية قادرة على البلوغ المنظم لجماهير الشعب، أعاقت هذا الأمر وأنتجت صخبا وضجيجا إعلاميا شديدا، وابتدعت فكرة الحشد غير المنظم لجماهير تلقائية فى ميدان التحرير لتضغط بها على مصدرى القرار. وكانت ثمة جهود شعبية منظمة لم تخش الانتخابات وعملت على تهيئة الأجواء السياسية لنفسها.
ونحن نلحظ أن على رأس القوى الشعبية المنظمة كانت جماعة الإخوان المسلمين بتنظيمها الدعوى الحاشد، وكان الصراع يقوم بين هذه القوى المنظمة وبين ما يسمى بالقوى التلقائية التى تحشد بالتجييش العاطفى من لا تعرفهم من جمهور فى ميدان التحرير. وانتصر الجانب المنظم فى تشكيلات مجلس الشعب بالإخوان وتنظيمهم والسلفيين وتنظيمهم والوفد وتنظيمه والآخرين، حسب هذا الترتيب الذى عكس القوة النظامية. وكان من المأمول أن تتهيأ القوى النظامية بمجلس الشعب مع القوى النظامية فى مؤسسات الدولة وأجهزتها على التآزر والتعاون للعبور بمصر إلى ما يحقق أمانيها. ولكن المسيطرين على مجلس الشعب أثاروا النزاع مع سلطات الدولة الأخرى من أجل السيطرة التامة عليها فلما لم ينجحوا وهم لم يكن يمكن أن ينجحوا تركوا العمل النظامى ولجأوا إلى ما لجأت إليه من قبل القوة التلقائية فى عملها عن طريق ميدان التحرير بواسطة جمهور لا تربطه أربطة تنظيمية.
والغريب أن الطرف الفائز فى معركة الانتخابات ومنهم جماعة الإخوان يتصرف تصرف المهزومين فى هذه المعركة ويكرر تجربتهم. وإذا كانت حركة ميدان التحرير من 19 إلى 22 نوفمبر لعرقلةإجراء الانتخابات قد فشلت، وكانت تقوم بها القوة السياسية غير ذات التنظيمات فإن ذوى التنظيمات الذين فازوا فى الفترة التالية قد عادوا يكررون ما سبقهم فيه الحركات التلقائية، وذلك فى جمعتى 27 أبريل و4 مايو 2012، وتركت الجماعة مجلس الشعب، وهو جزء من السلطة السياسية فى الدولة، ولجأت إلى ميدان التحرير ثم ميدان العباسية لا تلوى على شىء.
وقد كان من الغريب أيضا، أن مجلس الشعب لما فشل فى إسقاط الوزارة لأنه لا يملك الوسيلة القانونية ولا الدستورية ولا السياسية لذلك، أعلن عن توقيف جلساته لمدة أسبوع، أى أنه قرر الإضراب عن العمل. وهى أول مرة فى علمى التاريخى تلجأ فيها سلطة من سلطات الدولة إلى الإضراب، قد يضرب موظفون مثلا ولكن السلطة ذاتها لا نعرف أنها أضربت فيما عرفنا من تجارب الأمم والشعوب.
ولم يدرك مجلس الشعب بذلك أنه بتقريره عدم العمل، قد عطل جلساته، وأنه بذلك إنما كان يتيح للمجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يصدر مراسيم بقوانين فى هذه الفترة إذا استدعت الضرورة الملحة إصدار قانون عاجل جدا فى حالة تعطل مجلس الشعب. ولكن المدة لحسن الحظ انتهت قبل أن يحدث ذلك.
والحمد لله..