القاهرة من مدينة جاذبة إلى مدينة طاردة

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 10 مايو 2020 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

أعشق القاهرة، وعندما أتساءل كيف تحولت من مدينة جاذبة كما كان حالها حتى أواخر ستينيات القرن الماضى إلى مدينة طاردة فيما تلى ذلك من عقود وخصوصا منذ ثمانينيات ذلك القرن، فإنى أقصد بالذين لم تعد تجتذبهم هم أسرها من الطبقة الوسطى العليا ومن يفوقونها ثراء، وقد اقترن هذا التحول فى جاذبيتها لهم بأن الإقامة فى أحيائها المركزية لم تعد علامة على الجاه والقيمة الاجتماعية بل صارت تشير إلى العجز عن مقاومة هجرتها سواء إلى خارج الوطن أو إلى ضواحيها الجديدة، واضطرارها إلى قبول مشاركة العيش فيها مع ملايين جاءوا للإقامة هربا من الفقر والبطالة وضيق الفرص فى مدن وريف مصر، أو يسعون إليها يوميا لكسب القوت أو ممارسة العمل فى مؤسساتها العامة والخاصة، ثم يغادرونها فى آخر النهار عودة إلى ديارهم. وقد اصطحب هذا التحول، وهذا هو موضوع هذا المقال، بتغير وظيفتها الاجتماعية من بوتقة للتفاعل والوفاق بين الطبقات التى تسكنها فى أرجائها متواصلة الاتساع إلى مسرح للشقاق، وربما الخوف من جانب، والحسرة والشعور بالحرمان من جانب آخر.
مناسبة هذا المقال هو السجال الذى بدأ على شاشات التلفزيون بإعلان يغرى المقتدرين من الطبقة المتوسطة العليا بالانتقال إلى واحد من المنتجعات المسورة الجديدة، ويعدد مزاياه من حدائق وارفة ومدارس دولية ومرافق رياضية ومحلات تعرض أحدث ما خرج عن بيوت الأزياء العالمية، ولكن أحد عناصر الجذب حسب الإعلان هو أن الانتقال إليه يضمن التجاور مع من يشبه هذا المواطن المخاطب بالإعلان. ويكفى النظر فى الإعلان لساكنى هذا المنتجع الذين يدعو الإعلان للانضمام إليهم لنعرف خصائص هؤلاء، تقل بينهم المحجبات، ويرتدى الذكور ملابس التريض، وتبدو عليهم جميعا مظاهر الصحة والسعادة والرضا بالعيش. أثار هذا الإعلان حوارات حادة على شبكات التواصل الاجتماعى وصفحات الجرائد. المدافع عن الإعلان يرى أن من حق المواطن أن يختار من يحب أن يعيش إلى جواره، وينتقد الآخرون ما يرونه فى الإعلان من مباهاة بالتمييز الطبقى، والبعد عمن لا يشبهونهم. ويردون عليهم بأشرطة مسجلة ذاعت عبر وسائل التواصل الاجتماعى يسخرون فيها من ذلك الإعلان، ويوضحون أن نفس تلك المزايا تتوافر فى أحياء القاهرة العشوائية، ولكن النبرة الهازئة فى هذا الإعلان المضاد هى لوم مستتر لمن سمح لأوضاع مزرية أن يعيش فيها ملايين من القاهريين. ولاشك أنها سمة أساسية فى كثير من مدن مصر فى الدلتا وفى الصعيد.
***
ما الذى جرى للمدينة القاهرة خلال بضعة عقود وجعل نخبتها الاقتصادية والاجتماعية بل والسياسية تهجرها إلى هذه المنتجعات المسورة؟ واستبدل بروح الوفاق الاجتماعى التى كانت تسودها حتى نهاية الستينيات هذا الخليط من مشاعر الخوف من جانب وربما الضيق والمرارة من جانب آخر؟. طبعا إحدى الحقائق الاجتماعية الثابتة هو أن نمط العمران فى أى مدينة يعكس بنيتها الطبقية. الفقراء لا يملكون أن يسكنوا فى أحياء الأغنياء، والأغنياء بدورهم لهم من الموارد التى تكفل لهم أن ينعموا بأوضاع سكن أفضل وبخدمات أرقى، وهم بكل تأكيد لا يكرهون الفقراء، ولكنهم لا يحبون أن يكونوا هم من يرونهم عندما يخرجون إلى شوارع ومرافق أحيائهم. ومع ذلك فإن نمط العمران الحضرى وطبيعة النظام الاقتصادى والاجتماعى والسياسى يمكن أن يساهما ليس فقط فى تقليل الفجوة، بل وفى جعل أحياء الطبقات غير الموسرة جاذبة لأفراد الطبقات الأخرى الأكثر حظا.
فلنقارن المسافة التى تفصل كل القاهرة المركزية بأحيائها الفقيرة والمتميزة عن ضواحى القاهرة الجديدة أو تحديدا عن منتجعاتها المسورة فى ضواحيها بما كان عليه الحال حتى ستينيات القرن الماضى قبل أن تتدهور أحوالها، ويعرض الرئيس السادات الانتقال خارجها ويطرح فكرة المدن الصناعية الجديدة، وذلك قبل أن تتحول فكرة الخروج من القاهرة لتوسيع الطاقة الإنتاجية للبلاد ولتخفيف الزحام عنها إلى تشجيع الحكومة للتسابق بين شركات المقاولات لبناء أحياء سكنية بالأساس. تجتذب لها الطبقة المتوسطة العليا والمصريين المهاجرين أحياء القاهرة المتميزة مثل الزمالك وجاردن سيتى ومصر الجديدة والتى كانت قريبة بل وعلى بعد دقائق ربما من أحياء الطبقة الوسطى بشرائحها المتوسطة والصغرى فى بولاق والحلمية والسيدة زينب والعباسية وعين شمس. بل إن بعض هذه الأحياء كانت سكنا للأثرياء قبل أن يتحولوا عنها إلى الأحياء القريبة من شاطئ النيل وشرق القاهرة. ولم يكن الفقر ظاهرة ملحوظة فى القاهرة حتى وإن بدأت شرائحها المتعلمة من الطبقة الوسطى تعانى شظف العيش مع قلة فرص التوظيف الحكومى على النحو الذى أبدع فى وصفه نجيب محفوظ فى كل من روايتيه القاهرة الجديدة وزقاق المدق، فقد كان الفقر فى تلك العقود ظاهرة تسود بدرجة أكبر فى الريف. بل وحتى القصور الملكية مثل عابدين والجوهرة وسراى القبة كانت تجاور أحياء الطبقة الوسطى. ولم يكن كل أثرياء مصر حتى فى أحيائهم المتميزة يعيشون فى قصور، وإنما كان الكثيرون منهم يعيشون فى شقق الأحياء. وباستثناء قصيدة أحمد فؤاد نجم عن حى الزمالك، لا نجد ما يشير إلى أن سكان أحياء القاهرة الأخرى كانت تملكهم مشاعر سلبية تجاه سكان أحيائها المتميزة.
هذا التقارب الجغرافى بين طبقات العاصمة فى تلك الفترة يتناقض مع التباعد الجغرافى والاجتماعى بين القاهرة المركزية بكل أحيائها من ناحية وضواحيها الجديدة من جهة أخرى والتى تصل فى المتوسط إلى 25 كيلومترا من ميدان التحرير إلى كل من القاهرة الجديدة ومدينة السادس من أكتوبر، ومع أنه لا تتوافر لدى بيانات التوزيع العمرى للسكان فى كل منهما، إلا أن انطباعى هو أن سكان المنتجعات الجديدة هم أكثر شبابا وأعلى دخلا ويتبعون نمط حياة أقل محافظة وأكثر تحررا بصفة عامة بالمقارنة بمعظم سكان القاهرة المركزية.
***
أن تسود أفضل المشاعر بين كل سكان القاهرة بكل أحيائها ومنتجعاتها المسورة أمر أساسى فى كل الأوقات، بل وهو شرط ضرورى للسلام الاجتماعى، وهو أشد إلحاحا فى هذه الأوقات التى يقبل فيها العالم على أزمة اقتصادية كبرى وصفتها دوائر بريطانية بأنها أقسى من كل ما عرفه العالم منذ الكساد الكبير فى سنة 1929، وبدأنا نحن فى مصر نشعر ببعض أبعادها المبكرة، كما أنه ضرورة لأمن الوطن، فالثورات الكبرى التى عرفتها مصر فى عصرها الحديث بدأت من القاهرة، ومشاعر الحرمان النسبى هى التى حركت مئات الآلاف بل الملايين من المواطنين فى يناير 1977 ويناير 2011. صحيح أن هذه الانتفاضات الجماهيرية لم تقترن بأحداث نهب وسرقة كان يمكن أن يكون ضحيتها الموسرون من المواطنين، وهو ما يعكس رقى الشعب المصرى. إلا أننا لا ينبغى أن نركن إلى هذا الميراث التاريخى، فقسوة الأزمة القادمة يمكن أن تغير كثيرا من أنماط السلوك التى سادت فى عصور سابقة.
المسئولية الأولى فى هذا التحول المحتمل فى العلاقات بين سكان القاهرة الكبرى تتحمله الحكومة، وخصوصا السياسات التى اتبعتها منذ سبعينيات القرن الماضى والتى تؤدى إلى تفاقم سوء توزيع الثروة، وأنتجت بالفعل سقوط ثلث السكان تقريبا، أى نحو ثلاثة وثلاثين مليون مواطن تحت خط الفقر بشهادة بيانات الحكومة الرسمية. حاولت حكومات نظام يوليو تخفيف أعباء الفقر وتحسين توزيع الثروة بين المواطنين، وكان مشروع المساكن الشعبية أحد أساليب توفير سكن لائق للمواطنين الفقراء، وحاولت أيضا توفير الخدمات للفقراء فى القاهرة على نحو لا يجعلهم يشعرون بالحرمان تجاه مواطنين آخرين أكثر حظا. ولعل قصة مركز شباب الجزيرة الذى كان فكرة للرئيس جمال عبدالناصر أراد من ورائها أن يتيح لشباب الأحياء الفقيرة فرصة ممارسة الرياضة على نحو ما يفعل الشباب الذين تتمتع أسرهم بعضوية نادى الجزيرة المجاور هى دليل بارز على الحرص على سيادة مشاعر طيبة بين كل سكان العاصمة.
تغير الأمر كثيرا على عهد الرئيس أنور السادات وخلفه الرئيس حسنى مبارك. تراجعت الدولة عن توفير السكن المناسب للفقراء ومحدودى الدخل، وذلك فى وقت تزايد فيه السكان والهجرة إلى القاهرة وتفاقمت مشكلة السكن، وانسحبت حتى معظم عهد الرئيس مبارك من مشروعات الإسكان لمحدودى الدخل والمتوسط، واكتشفت مشكلة العشوائيات عندما نبهتها أحداث الإرهاب منذ أواخر الثمانينيات إلى أن الأحياء العشوائية هى مشكلة أمنية. بل وبدلا من تخصيص مشروع القاهرة الجديدة فى البداية للمواطنين محدودى الدخل، وهو ما تم تنفيذه بالفعل على نطاق متواضع فى المنطقة القريبة من الجامعة الألمانية، أصبحت الحكومة تنهمك فى التخطيط لأحياء تستهدف المواطنين الأثرياء، وتبيع الأراضى لشركات البناء التى تنافست على اجتذاب هؤلاء المواطنين دون أن تنتبه إلى توفير فرص العمل إلى جانب المساكن الفاخرة، ومن ثم تفاقمت مشاكل المرور فى القاهرة لأن المقيمين فى المنتجعات الجديدة يعملون فى العاصمة، ولأن من يعمل فى المدن الجديدة لا يجد سكنا فيها، وهكذا لم يتحقق المأمول من وراء هذا التوجه الجديد بتخفيف الزحام فى العاصمة والضغط على مرافقها المنهكة. وبينما اتسعت فيه هذه الضواحى الجديدة بمنتجعاتها المسورة. أهملت الحكومة الارتقاء بالخدمات ونوعية الحياة فى جميع مدن الأقاليم والعواصم الحضرية الكبرى، وطبقت نفس التفكير التخطيطى الذى يعوض عن تردى الأوضاع فى المدن القديمة ببيع الأراضى فى مدن جديدة. طبعا هناك مشروعات تنفذ فى القاهرة المركزية، وهناك تصدٍ لمشكلة العشوائيات، ولكن معظمها يأتى متأخرا مثل مشروعات مترو الأنفاق، أو يتم على نحو لا يراعى حاجة المواطنين للانتقال إلى أماكن العمل كما هو الحال فى مشروعات الإسكان الاجتماعى. وفضلا على ذلك توقفت عن إصلاح نظام الإدارة المحلية ووضع الموظفين فى المحليات تحت رقابة سلطة شعبية منتخبة كان من شأنها استخدام الموارد المحلية فى الارتقاء بالخدمات ونوعية الحياة فى حواضر مصر وريفها.
أقمت خلال سنوات الدراسة والعمل بالخارج فى عدد من أشهر عواصم العالم فى لندن وباريس وروما وواشنطن، وزرت بعض العواصم العربية، وكنت استمتع باستكشاف هذه المدن بالسير لساعات طويلة فى شوارعها. وقد أدركت كيف كانت إدارات هذه المدن وكلها منتخبة تجاهد لجعل الحياة فيها متعة كبرى، وشهدت كيف كان زملائى يتسابقون للحصول على شقة فى الأحياء القديمة لهذه المدن، بل وكيف تحولت أحياء الفقراء مثل هارلم فى نيويورك وشمال شرق واشنطن لأماكن جذب لعائلات الطبقة الوسطى، وأعجبنى كثيرا كيف تحولت مدينة الرباط فى المغرب إلى تحفة معمارية بديعة. فى ظل هذه الأوضاع انقلبت موجة الهروب من المدن الكبرى فى دول العالم المتقدم، وهجر كثيرون المنتجعات المسورة، وعادوا يعيشون فى المدينة الكبيرة الرحبة الزاخرة بالمنتزهات والمسارح والمتاحف وعمارة عصور سابقة، وبثراء الاختلاط مع ثقافات وأنماط معيشة ورؤى حياة متنوعة. لا أنكر أن لهذه المدن مشاكلها أيضا، ولكنها لا تستعصى على الحل كما أن كلها مدن جاذبة. كم أتمنى أن تعود القاهرة المركزية مثلها مدينة جاذبة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved