هل مصير الليبرالية فى خطر؟!

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 10 يونيو 2022 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

لعلك تلاحظ ــ عزيزى القارئ ــ أن التشكيك الواضح والمقصود والعميق لمصطلحى الليبرالية والديمقراطية بدأ فى عصرنا الحالى منذ ارتقى بوتين سدة الحكم فى روسيا، وتشى فى الصين، وهكذا بدأت أبواق البلدين فى عزف منظومة إعلامية عالمية تقوم بهذه المهمة التى تستهدف تشويه مثل هكذا مبادئ، وقد تم تصدير هذا الفكر كالعادة إلى الشرق الأوسط ليكون نموذجا لباقى دول العالم، ولم يقتصر الأمر على ذلك لكن جاءت الطعنات لليبرالية مع صعود الشعبوية، مع اليمين المتطرف ودعواته للقومية الدينية أو العرقية، وفوجئ العالم باتجاه الساحة الأوروبية بعد غزوها بالمهاجرين من العالم الثالث، أن اليسار ويمين الوسط اضطرا لدواعٍ انتخابية إلى اتباع سياسات شعبوية معادية لمبادئ الليبرالية، من هنا اكتشف العالم مدى هشاشة الليبرالية والديمقراطية، وهكذا بدأت دول كثيرة كانت تطمح وتحلم أن تنضم للنادى الدولى الليبرالى بالانسحاب منه تدريجيا، وأصبح النموذجان الأقوى هما الصينى والروسى.
لكن جاء نجاح بايدن على حساب ترامب وهزيمته ليوقف هذا الانحسار المتردى. ويعلن أن الديمقراطية الليبرالية قادرة على الانتصار والثبات، وتم تعريف الصراع الدائر مع الصين وروسيا بأنه صراع بين الديمقراطية من جانب والسلطوية من الجانب الآخر، وهكذا أصبحت الليبرالية قضية، وتحولت من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم.
وبالطبع – نحن نعلم – أن الليبرالية تتميز بأنها لا تفرض على الناس طريقة عيش معينة لحياتهم، بل ميزتها أنها تترك لكل فرد فى المجتمع أن يعيش بمبادئه وقناعاته وطريقته كما يشاء، وتنحسر مهمة الليبرالية هنا على الحفاظ على سلامة الحياة، وضمان استقرار المجتمع، وهذا عكس الأنظمة الديكتاتورية والسلطوية والتى تتأسس على رابطة العرق أو الإثنية أو الدينية أو العسكرية، من هنا نرى كيف تتعامل الصين مع أقلية الشعب الإيغورى مثلا، وكما يحدث فى ميانمار مع الأقلية المسلمة، فالأنظمة السلطوية تنزع وتعمل على استرجاع الهويات التاريخية والثقافية والحضارية، وإعادة فرضها على المجتمع، وهذا عكس تماما الأنظمة الليبرالية الديمقراطية التى تحاول بناء هوية جامعة حول مبادئ سياسية إنسانية مثل الانفتاح على الآخر المختلف وقبوله.
• • •
من أهم المبادئ التى أعلنها بوتين فى تبريره لاجتياح أوكرانيا قوله: أنه لا يوجد شىء فى التاريخ اسمه أوكرانيا، وأن الشعب الأوكرانى جزء من الشعب الروسى، وأنه سوف يخلصه من النازية والتبعية للغرب، ولقد كان من العجيب أن رئيس الكنيسة الأرثوذكسية فى موسكو يُعلن أن الحقيقة الصارخة هى أن الشعب الروسى والأوكرانى والبيلاروسى يجب أن يتوحدوا كشعب وجسد روحى واحد، وهذا المصطلح «الجسد الواحد» مقتبس ومأخوذ من الكتاب المقدس عن وحدة الكنيسة فى العالم روحيا مهما اختلف انتماء شعوبها فى العرق أو اللغة أو الحضارة، فالذى يجمعهم هو «جسد السيد المسيح »، وبالطبع هذا المصطلح لا يَصلح إطلاقا فى معناه أو تطبيقه على أى توجه سياسى أو اقتصادى أو عسكرى، لكن استطرد رئيس الكنيسة فى شرح فكرته بقوله إن اجتياح أوكرانيا هو جزء من الصراع الروحى الميتافيزيقى (الدينى) ضد حضارة الغرب المنحل أخلاقيا، لكونها تعبدالمادية والعولمة والترويج للمثلية، وهو نفس ما يردده الكثير من رجال الدين فى مصر، إن رفع شعار الدين والعرق الثابت فى وجه الليبرالية غير الثابتة على الأرض أسهم فى إحداث خرق فى الدول الليبرالية الأوروبية، ففاز فى المجر رئيس الوزراء الشعبوى أوربان بأغلبية ساحقة، وفاز فى صربيا المتشدد دينيا ألكسندر فويتيتش. وفى فرنسا نالت مرشحة اليمين مارى لوبان ٢٤% من الأصوات لتنافس ماكرون فى الجولة الثانية، هؤلاء مثل بوتين، ينطلقون من نفس الأسس والقواعد ذاتها: العرق والقومية والإثنية والثقافة المختلطة بالدين، لذا رأت المرشحة مارى لوبان أن بوتين قد يكون حليفا لفرنسا بعد انتهاء الحرب فى أوكرانيا، وهذا يؤكد أن الليبرالية لا تواجه تحديا فقط من الصين وروسيا، بل من داخل مجتمعاتها متمثلا بالسلطوية المنتخبة ديمقراطيا.
ومن نتائج السلطوية على المستوى الدولى نلاحظ تراجع الإيمان بسلطة عليا للقانون الدولى، وشرعنته السياسية الواقعية التى تبرر لدولة أن تغزو أخرى ولحكومة داخل دولة أن تتنكر لحقوق الأقليات، وأن تضطهد المختلفين تحت شعار الثقافة الجامعة أو الدين أو العرق أو سيادة الدولة، وانتشار وسيادة هذا المفهوم سيؤدى حتما إلى تراجع الليبرالية، وتراجع الإيمان بالعولمة وصراع الثقافات على المستوى الداخلى والعالمى، وهذا سيمهد إلى تغيير ضخم فى النظام العالمى (القائم)، وهذا التغيير ليس بالضرورة أن يكون خيرا، إنما قد يبشر بعودة الصراع بين الأمم عبر حروب كما كان الحال فى القرن التاسع عشر، وإذا تحقق ذلك فإنه سيؤدى مع الوقت إلى أفول سيادة الولايات المتحدة وتداعى الأسس والقواعد الليبرالية التى تزعمت بها أمريكا العالم، وسيؤدى إلى هيمنة الصين كنموذج رأسمالى ذى ثقافة قومية معادية لليبرالية، وكى لا يتحقق ذلك تبذل الولايات المتحدة الأمريكية أقصى ما بوسعها لمنع هذا المسار، ولن تسمح لبوتين أن ينتصر انتصارا كاملا فى أوكرانيا، ولن تسمح للصين أن توسع نفوذها فى شرق وجنوب آسيا. ولتحقيق ذلك جاءت فكرة أن يقوم بايدن هذه الأيام بجولة فى السعودية والشرق الأوسط والأدنى مركزا على توحيد جبهة للمواجهة من خلالها يروج لإفشال التحرك الروسى مستخدما أوصافا مشينة مثل وحشية الرئيس بوتين، ووجوب محاكمته بجرائم حرب، ووصف ما فعله بالعدوان، وتخيير الصين بأن تكون إما مع بوتين المنتهك للقانون الدولى أو مع الدولة المؤمنة بقدسية القانون الدولى وحقوق الإنسان، وهو ما بثته وتبثه وسائل الإعلام الليبرالية عما يجرى فى أوكرانيا والتى تجد آذانا صاغية لدى شعوب الغرب وقد خلقت واقعا جديدا حمل أوروبا على الرغم من بعض قادتها إلى التحرك ومجاراة الولايات المتحدة، بل إن بعضها مثل فرنسا أرسل فريقا للتحقيق فى جرائم الحرية المزعومة فى أوكرانيا، كما أن أوروبا المؤمنة وعلى رأسها ألمانيا بدأت تتسلح إيمانا منها بأن نظامها الليبرالى فى خطر، هذه التحركات رافقها تأييد شعبى فى أوروبا مما سيسهم بلا شك فى وقف الشعبوية داخل المنظومة الأوروبية، هذا المد الليبرالى لن يحبطه النجاح المرحلى للشعبوية، لأن هذا النجاح يعتريه شكوك وهنا سيصبح أوربان محاصرا من الاتحاد الأوروبى، ولن يستطيع إقناع شعبه بالتوجه شرقا.
• • •
لا شك أن حرب أوكرانيا، رغم مآسيها أعادت الروح الليبرالية مجددا للواجهة وجعلت منها واقعة لحرب جديدة عنوانها (دول الاستبداد فى مقابل الديمقراطيات) وفى حال فشل روسيا فى تحقيق أهدافها كاملة، ستكرس من جديد عودة أمريكا لتتزعم العالم ومعها ستبقى الليبرالية هى الشعار الأوحد ولن تستطيع الصين ولا غيرها بعد ذلك أن تشكك فيها، ناهيك بأن دعائم سارية فى دول الاستبداد ستهتز لزمن طويل قادم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved