اللجوء السوداني
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 10 يونيو 2023 - 7:55 م
بتوقيت القاهرة
الصراع الأهلى المسلح الدائر فى السودان منذ الخامس عشر من إبريل الماضى نتجت عنه تدفقاتٌ جديدة من السودانيات والسودانيين، من الأطفال والشباب والشيوخ يبحثون فى الدول المتاخمة، وفى مقدمتها مصر، عن ملجأ وحماية من العنف والاقتتال اللذين نزلا ببلدهم. المهاجرون من أجل العمل أو لتغيير بيئة معيشتهم وظروفها يمكن أن يكون لهم نوع من الاختيار فى تحديد تاريخ هجرتهم والبلد الذى يتوجهون إليه. هذا الاختيار المحدود ليس متاحا للباحثين عن ملجأ وحماية. الفارون من العنف يلجأون إلى أقرب بلد لهم جغرافيا، وإن توفر لهم الوقت والموارد فهم يلجأون إلى البلد الأقرب لهم معنويا وعاطفيا. هكذا لجأ السودانيات والسودانيون إلى خمس دول متاخمة هى تشاد، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، وإثيوبيا، ومصر. فى حالة الدول الأربع الأولى، اللاجئة أو اللاجئ يقطع كيلومترات قليلة ليجد نفسه وقد انتقل إلى حيث يبغى المأوى والحماية. فى حالة مصر، الأمر يختلف. مئات الكيلومترات تقطعها اللاجئة أو اللاجئ لينتقل من الخرطوم مثلا فى حافلات مقابل مئات الدولارات العزيزة حتى يصل إلى الحدود المصرية بغية عبورها إلى حيث يبحث عن الأمان. الاعتبار المعنوى والعاطفى فى حالة اللجوء السودانى إلى مصر أكثر أهمية من العامل الجغرافى. هذا الاعتبار لا بد من أخذه فى الحسبان فى أى سياسة تجاه اللجوء السودانى. وسياسة اللجوء، فضلا عن طابعها الإنسانى، وبالإضافة إلى أنها التزام يرتبه القانون الدولى، هى فى نهاية المطاف جزء من مقاربة كل دولة لعلاقاتها بجوارها، أى من سياستها الإقليمية. خذ على ذلك مثالا سياسة الدول الأوروبية، خاصة الواقعة منها فى شرق أوروبا، من اللجوء الأوكرانى بعد نشوب الحرب الروسية الأوكرانية. هذه السياسة كانت تعبيرا عن التضامن مع أوكرانيا والرفض للاعتداء الروسى على سيادتها. وتذكر سياسة تركيا من اللجوء السورى وهو بالملايين، هذه السياسة أرادتها تركيا بمثابة المسوغ لدور متعاظم لها فى شئون الشرق الأوسط يضفى شرعية عليه.
على ضوء ما تقدم، يتناول هذا المقال وبإيجاز، مصر واللجوء السودانى الأخير أولا، ثم يتصدى لبعض الأصول السياسية لهذا اللجوء. فى السودان وفى غيره، تدفقات اللاجئات واللاجئين ليست إلا عرضا لمشكلات سياسية أولا وأخيرا.
مصر واللجوء السودانى الأخير
مفهومٌ أن تحرص كل دولة على ألا يتسلل إلى أراضيها ما يهدد أمنها، وأن تتخذ من أجل ذلك الإجراءات المناسبة. غير أن هذه الإجراءات لا ينبغى أن تعوق الدولة المعنية عن تحقيق مصالحها وبلوغ أهدافها الأوسع. الأمن هو وسيلة لتحقيق المصالح وبلوغ الأهداف. أولى المصالح أن تحفظ مصر سمعتها كدولة تحترم القانون الدولى باستقبالها للاجئات واللاجئين وإيوائهم. السمعة أداة حيوية للتعامل فى النظام الدولى، وبالذات للدول متوسطة القوة التى ليس بإمكانها أن تتجاهل السمعة بمجرد إشهار قوتها مثلما يمكن أن تفعل الدول العظمى.
ثانيا، فضلا عن احترام المبدأ، فإن لمصر مصلحة خاصة فى حماية اللاجئات واللاجئين السودانيين وإيوائهم وتمكينهم من أن يحيوا حياة آمنة كريمة. عديدون سيقولون وما بال مصر بأى لاجئات ولاجئين إليها فى الوقت الحالى وهى تصارع أزمة اقتصادية ممتدة طاحنة لا تجد خلالها العملة الأجنبية الضرورية للنشاط الاقتصادى بها، ولا تنفك الأسعار فيها ترتفع وترتفع، تخنق المواطنات والمواطنين وتعوق تلبية احتياجاتهم الأساسية. الحجج التى يسوقها هؤلاء صحيحة، ولكن مكانة الأمم ومصالحها لا تقوَّم بالحسابات الضيقة المقصورة على عناصر مادية من طبيعتها التغير. إدراك ذلك لا يغيب على المسئولين والدليل عليه الطائرتان المحملتان بالمساعدات الطبية التى أرسلتها مصر للسودان فى منتصف شهر مايو الماضى. المرجو هو أن يكون هذا الإدراك راسخا وألا تنال منه دعاوى من يحتجون بالضائقة الاقتصادية التى تعيشها مصر. تقديرات واسعة الأفق تحسب أنه وإن كانت مصر قد استقبلت أكبر تدفقات من اللاجئات واللاجئين السودانيين، بين دول الملجأ الخمس، فإن عددهم حتى الأيام الأخيرة من مايو الماضى كان 164 ألفا، وهو رقم متواضع بأى معيار. والسودانيات والسودانيون الذين جاءوا إلى مصر لجأوا إليها لاعتبارات معنوية وعاطفية كما سبق بيانه، حتى أن أحدهم، وكما ورد فى أفريكا نيوز فى 25 مايو الماضى، قال إن «مصر كانت الملجأ البديهى، هى بلدنا الثانى». هذا المواطن السودانى وأمثاله هم رصيد لمصر فى حوض نهر النيل وفى امتداده فى القرن الإفريقى وشرق إفريقيا، بل وفى القارة كلها، وفى العالم العربى كذلك. هم ليسوا رصيدا بمعنى استخدامهم قصديا لمصلحة مصر. هم رصيد إن عملوا لمصلحة بلدهم، السودان، وراعوا فى تحقيقها مصلحة مصر التى يرتبطون بها معنويا وعاطفيا، مصر التى تكون قد وفرت لهم الحماية وسبل العيش الكريم. ومن زاوية التكلفة المادية البحتة، فإن اللاجئات واللاجئين إلى مصر استطاعوا تمويل رحلتهم إليها، وهو ما يعنى أنهم ليسوا معوزين بل هم من ذوى الموارد. ولأن العلاقة طردية بين الموارد ومستوى التعليم فى بلادنا، فاللاجئات واللاجئون السودانيون فى تدفقهم الأخير هم بالضرورة من المتعلمين. المتعلمون أصحاب الموارد، من اللاجئين وغير اللاجئين، ليسوا عبئا على بلد وفادتهم بل يمكن أن يكونوا إضافة ذات قيمة له.
الأصول السياسية للجوء السودانى
ما كان يجب أن يكون التدفق الأخير للاجئات واللاجئين السودانيين مفاجئا لأحد. انقلاب شهر أكتوبر 2021 على مجلس السيادة الانتقالى العسكرى ــ المدنى والإطاحة بحكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، الممثلة لقوى الحرية والتغيير الثائرة والمسقطة لحكم الرئيس عمر البشير، والمكلفة بإنجاز التحول الديمقراطى، هذا الانقلاب وهذه الإطاحة قام بهما تحالف من قوتين عسكريتين مستقلتين فعليا عن بعضهما البعض. لا يمكن لمثل هاتين القوتين أن تتعايشا طويلا دون أن تختلفا وأن تتقاتلا، خاصة أن الخلاف بينهما كان علنيا، وموضوعه اندماج واحدة منهما فى الأخرى، اندماج قوات الدعم السريع فى الجيش السودانى وفقدانها بذلك لذاتيتها ولاستقلال قرارها. بذرة النزاع بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع كانت موجودة منذ اليوم الذى تحالفا فيه لوقف التحول الديمقراطى فى السودان. لو وُجِدَ نظامٌ للإنذار المبكر يحذر من إمكانية تدفق للاجئات واللاجئين، كذلك الذى دعت إليه بعض الكتابات منذ عقد مضى، لأنذر بالضرورة بأن الاحتمالات كبيرة بأن تصدر من السودان تدفقات يعتد بها من اللاجئين واللاجئات فى وقت لم يكن بعيدا.
تدفقات اللاجئين من السودان متكررة وهى ليست إلا أعراضا لعلل عميقة اعترته منذ استقلاله بل ومن قبله. لم تخل التعليقات على الانقلاب الأخير، خاصة فى مصر، من تفسيرات له على أنه من فعل مؤامرات خارجية. الحرب الأهلية الأولى التى نشبت فى جنوب السودان سنة 1955، والثانية التى اندلعت فيه فى الثمانينيات الأولى من القرن الماضى ولم تنته إلا باتفاق نيفاشا فى سنة 2005، والصراع فى دارفور، كلها وجدت تفسيرات بأنها مؤامرات على السودان. أسوأ ما فى تفسير الظواهر السياسية بالمؤامرات، هو أنها تصرف النظر عن الأسباب العميقة لهذه الظواهر وعن البحث الجاد عن السبل الفعالة لعلاجها.
علّة أساسية هى أنه لم يعمل أحد بجدية منذ نشأ السودان كوحدة سياسية، غير مستقلة، هو السودان الإنجليزى ــ المصرى لدى نهاية القرن التاسع عشر، على تعزيز التكامل الفعلى بين الأقاليم المكونة له وسكانها. السودان المقصود هو الذى كان يشمل جنوب السودان المنفصل فى سنة 2011. ضعف التكامل أدّى إلى تفاوتات اقتصادية واجتماعية وتعليمية وتنموية، اختلطت بالتباينات العرقية واللغوية والعنصرية والدينية فنشأ عن هذا الاختلاط مشهد مركب فى تعقيده. المحتجون والمتمردون، عن حق أو بغيره، رفعوا مرة رايات العدالة الاقتصادية والتنموية، ومراتٍ رايات العدالة العنصرية أو اللغوية أو الدينية. والمنتمون لعنصر واحد أو لدين واحد فرقتهم الأعراق وتقاتلوا كما حدث فى جنوب السودان بعد انفصاله، وفى دارفور. علةٌ أخرى هى أنه بعد استقلال السودان فى سنة 1956، ساد لأغلب السبعين عاما الماضية اعتقاد بأنه يمكن التغلب بالقوة على الخطوط الفاصلة بين الطبقات والأعراق والأديان واللغات، والقفز فوقها بدون التعامل الفعلى مع ما رتبته من تفاوتات. هذا هو ما يمكن استخلاصه من تجارب استيلاء العسكريين السودانيين على الحكم، من إبراهيم عبود، إلى جعفر نميرى، إلى عمر البشير، إلى الحكم الحالى، بخلاف المحاولات العديدة الفاشلة التى قام بها عسكريون آخرون. هذه التجارب لم تترك للديمقراطية التمثيلية فى السودان فرصة للتنفس. الديمقراطية التمثيلية هى نظام الحكم الممكن الوحيد فى بلد متعدد العناصر والأعراق والأديان واللغات، ناهينا عن الطبقات. الهند مثالٌ حى على ذلك. انظر إلى أين أخذت الديمقراطية التمثيلية الهند وقارن باكستان بها؟، باكستان حيث سادت القوة فيما يقرب من الثمانين سنة الماضية، وهو عمر البلدين اللذين بدآ من نفس النقطة فى سنة 1947. محاولات الديمقراطية التمثيلية فى السودان كانت دائما قصيرة الأجل لم تترك لها القوةُ أى فرصةٍ لخوض عملية سياسية طويلة المدى يكون تصحيح عيوبها جزءا أصيلا لا يتجزأ منها.
لأسباب إنسانية وقانونية وسياسية، ينبغى تنظيم استقبال اللاجئات واللاجئين السودانيين فى مصر والترحيب بهم. كذلك ينبغى تمكينهم من أن يعنوا بأنفسهم، بالانخراط فى أنشطة اقتصادية ومهنية للمؤهلين منهم، فيخففون من مسئولية المنظمات الدولية وبلد اللجوء، مصر، عنهم بل ويضيفون إليه. إن كان بين اللاجئات واللاجئين أطباء مثلا، فإن التصريح لهم بالعمل سيمكنهم من المساهمة فى سد العجز من الأطباء فى مصر. والدول المتاخمة للسودان، والأمل أن تكون مصر فى مقدمتها، لا بد أن تعاون وبنشاط التيارات المختلفة فيه، بالوساطة والتوفيق والمشورة والاقتراحات، على وقف الصراع الدائر بينها وعلى إرساء عملية تحول ديمقراطى تمثيلى جديدة فيه، ترسى نظاما يتعامل بجدية مع التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية بين أقاليمه.
الحفاظ على سلامة أراضى السودان ووحدته رهن بالتعامل مع التفاوتات المذكورة، وكلاهما شرط لعدم نشأة تدفقات جديدة من اللاجئات واللاجئين لمصر ولغيرها من دول حوض النيل ووسط إفريقيا.