مصر والثورة الثانية.. عودة الروح إلى العروبة

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 10 يوليه 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

.. وها هى القاهرة فى طريق العودة إلى موقعها الطبيعى وإلى دورها الذى لا بديل منها فيه، تتقدم شاهرة هويتها العربية صريحة متوهجة، على وقع المرحلة التى تميزت بإنجازاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحت قيادة جمال عبدالناصر، سواء على صعيد الداخل المصرى أم على صعيد الوطن العربى جميعا، بل وعلى المستوى الدولى أساسا عبر حركة عدم الانحياز بقادتها التاريخيين، نهرو وتيتو وشو ان لاى.

 

●●●

 

لم يطل الغياب أو التغييب هذه المرة: سنة واحدة من حكم الإخوان المسلمين بشخص الدكتور محمد مرسى، تحت راية تنظيمهم الدولى، وفى ظل رعاية أمريكية معلنة ولكنها لا تصل إلى حد التبنى الكامل، وبدعم مالى وفرته قطر بعد مساومات علنية، فى حين ظلت «مفاوضات» البنك الدولى وصندوق النقد الدولى معلقة على الالتزام بشروط مستحيلة.

 

ولكنها سنة طويلة جدا، حفلت بالمناورات المكشوفة أغراضها والاستفتاءات المرتجلة والقرارات الهادفة إلى احتكار السلطة واستبعاد الآخرين، كل الآخرين، عن المشاركة فى حكم كان بأمس الحاجة إلى شركاء جديين ولهم ثقلهم الشعبى، خصوصا أن نسبة المقترعين له «للرئيس» بالكاد تجاوزت نصف الأصوات.. وبعد جهد جهيد وتنازلات جدية من بعض المنافسين ذوى الحضور الشعبى.

 

وهى سنة طويلة جدا، لأن الحكم الإخوانى قد تسبب خلالها بخسارة الكثير من رصيد مصر، دوليا وعربيا وأفريقيا تكفى حكاية أثيوبيا وموضوع السد فيها كمثال. فى حين إنه لم ينجح فى إعادة العلاقات إلى سويتها لا مع روسيا ولا مع الصين، ولا هو تقدم بالعلاقات مع أوروبا، ولا هو استعاد موقع مصر الممتاز مع دول عدم الانحياز (الهند وأمريكا اللاتينية وإيران التى استضافت المؤتمر الأخير قبل شهور)..

 

●●●

 

ها هى مصر، إذن، تستعيد روحها، وجماهير ميادينها تؤكد هويتها ودورها القيادى فى أمتها، وتغنى أناشيد المرحلة الناصرية التى حملت مصر إلى موقع القيادة فى محيطها العربى، وإلى الموقع المؤثر فى القرار الدولى.

 

وها هى الجماهير العربية فى المشرق والمغرب تستقبل مصر العائدة إلى دورها الذى لا تعوضها فيه أية دولة عربية أخرى، بفرحة غامرة، مستبشرة بانتهاء عصر الضياع عن الهوية والدور، وعن القيادة بطبيعة الحال.

 

لقد كشفت تطورات الأحداث، بالنهاية التى جاءت سريعا ومن خارج التوقع، أن تنظيم الإخوان المسلمين قد يكون أكبر الأحزاب السياسية فى عديد أعضائه ومناصريه، ولكنه أصغر بكثير من أن يمثل مصر لوحده.

 

كذلك فقد كشفت هذه التطورات أنه لم يحافظ على مكسبه الممتاز، الوصول إلى الرئاسة، بعدما اختار بعض خصومه من المنافسين أن يدعموا رئيسا منه لأن مرشحه حاز أكبر نسبة من الأصوات فى الدورة الانتخابية الأولى... وعليه فهو قد فاز لأن المنافسين لم يتفقوا على واحد منهم، وبالتالى فإنه لم يكن فى موقع «الرئيس» ممثلا للأكثرية الشعبية.

 

●●●

 

وهو قد انكشف حين أصر مكتب الإرشاد على احتكار السلطة فى جماعته من المحازبين والمناصرين فقط.

 

على هذا فان إخفاقه جاء مدويا وغير مسبوق: كسب الرئاسة وخسر البلاد!

 

وهكذا فإن الإخوان قد ارتكبوا الخطيئة ذاتها التى سبق أن ارتكبتها أحزاب أخرى، خصوصا فى المشرق، حين استغنت بنفسها عن القوى الشعبية المنافسة أو المختلفة فى الشعار أو فى الخط السياسى.

 

لقد سقطوا حين رفضوا صياغة حكم جبهوى يضم الكفاءات المميزة فى مختلف القوى والتنظيمات ذات الوجود الشعبى فى مصر، ولو فى موقع «الخصم»، من أجل إنجاح الحكم باسم الثورة التى احتشدت ملايينها فى الميادين، طوال السنة، غالبا بالاحتجاج ورفض التفرد ومحاولة تمرير القرارات الخاطئة بالاستفتاءات الشعبية سيئة السمعة فى الوطن العربى عموما.

 

وسقطوا حين عجزوا عن تحويل المصادفة القدرية إلى فرصة تاريخية لإثبات أهلية تنظيمهم العريق للحكم، متجاوزا عصبيته الحزبية.

 

●●●

 

كذلك فهم قد سقطوا حين عجزوا عن الإفادة من هذه الفرصة التاريخية لمراجعة شاملة لتجربتهم ونقدها بصراحة تؤهلهم ــ عند الشعب ــ لطلب التسامح مع أخطائهم فى الماضى مع التعهد بتصحيح المسار مستقبلا.

 

لقد كانت الطريق إلى السلطة ملغمة بالنزعة إلى احتكارها.. وها هى السلطة فى مصر قد تحولت إلى محرقة تكاد تلتهم رصيد أكبر التنظيمات الشعبية وأعرقها لأنه تبدى وكأنه يجىء من خارج العصر.

 

ولعل بين ما غفلت عنه قيادة الإخوان أن الجيش فى مصر غيره فى بلاد عربية أخرى، مثل سوريا أو العراق أو اليمن. إنه فى مصر كان وما زال وسيبقى مؤسسة وطنية راسخة، موحدة، يصعب الانشقاق فيها أو الخروج عليها.

 

●●●

 

أما فى المشرق العربى فإن الأحزاب السياسية فقد استطاعت أن تخترق الجيوش، أو أن الهزيمة هى بالفعل من وفر للأحزاب فرصة اختراق الجيوش تحت شعارات فلسطين والوحدة والعدالة الاجتماعية... وعبر الصراع بين هذه الأحزاب التقليدية التى لم يكن أى منها يملك مشروعا للتغيير الفعلى وبناء البلاد على قاعدة اقتصادية متينة وفهم عميق لآمال المجتمع وحاجاته، لجأ بعضها إلى الاستعانة بأنصاره فى قلب الجيش. والكل يتذكر فترة الخمسينيات، ثم معظم سنوات الستينيات فى سوريا، وأعداد الانقلابات أو مشاريع الانقلاب للاستيلاء على السلطة، تارة باسم الوحدة، وطورا من أجل الانفصال، تارة باسم الاشتراكية وإنصاف الفقراء، وطورا باسم منع الظلم «وإعادة الحقوق إلى أصحابها» أى إعادة مركزة الثروات فى أيدى القلة التى تحكم الحكم.

 

●●●

 

ولقد كان لانخراط الجيش فى السياسة وإقدامه على قلب السلطة المدنية، وفرض الحزب الواحد، آثارا مدمرة على المجتمعات فى المشرق العربى.

 

على أن الجديد مع ثورة مصر هو هذا الهجوم السعودى المباغت بالتأييد المطلق، والاستعداد للدعم المفتوح.

 

مفهوم أن يكون بين أسباب هذا الدعم تعزيز الحكم الذى جاءت به الثورة فى نسختها الثانية فى وجه الغواية «القطرية»، لكن المؤكد أن فى طليعة الأسباب الموقف العدائى تجاه الإخوان المسلمين. ومعروف أن الرئيس الاخوانى الدكتور محمد مرسى ومعه بعض أركان الحزب قد نافقوا الحكم السعودى وتوددوا إليه فى غير مناسبة، ولكنه ظل باردا إزاءهم، وهو الذى له موقف سلبى تاريخيا من الإخوان المسلمين وتنظيمهم الدولى. ومعروف أنه، بالمقابل، يناصر السلفيين ويدعمهم سياسيا وماديا... ولعله يراهن على أن يلعب هؤلاء دورا ما، ولو محدودا، فى «العهد الجديد»، وتكون لهم حصة فى كعكته.

 

●●●

 

لقد نافق معظم الحكام العرب الإخوان حين تولوا السلطة، فجاءهم البعض، وتواصل معهم بعض آخر مشجعا، لكن الأغنياء من هؤلاء الحكام (فى ما عدا قطر) لم يترجموا تأييدهم نقدا. أما الفقراء منهم فقد حاولوا تحصين أوضاعهم فى وجه الافاقة الإسلامية لضرورة الاستيلاء على السلطة وإقامة شرع الله... فتبدى وكأن الكل يقبلون بالشعار الإسلامى حاكما ولكن خارج البلاد التى يحكمونها.

 

فالسعودية، ومثلها معظم دول الخليج التى لا تقبل الإخوان من أهلها، وتطرد الإخوان الوافدين، والذين كشفوا عن نشاطهم بعد انتصار «الإخوة فى مصر»، قد أظهرت ارتياحا بل وحماسة لتخلص مصر من حكم الإخوان، وهو التنظيم الممتد فى مختلف الدول الإسلامية، وعبرت عن هذا الارتياح بحماسة وهى تسمع القيادة المصرية الجديدة تعلن أنها تهتم أولا وأساسا بمصر، ويلزمها وقت طويل قبل الالتفات إلى محيطها العربى محرضة على التغيير أو ساعية لإحداثه.

 

●●●

 

المهم أن مصر عائدة إلى ذاتها، وهى عربية، وإلى دورها، وهو عربى بامتياز، وأن فجرا جديدا ينشر الضوء فى الأرض العربية مبشرا بغد عربى جديد سوف ينبثق من قلب الصعوبة.

 

 

 

رئيس تحرير جريدة «السفير» اللبنانية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved