الزمن الجميل الذی نعيشه!

حسام السكرى
حسام السكرى

آخر تحديث: الأحد 10 يوليه 2016 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

لم أشعر يوما بالتعاطف مع اصطلاح «الزمن الجميل» الذى تحول إلى لبانة يلوكها الندابون فى قدح الزمن الذى نعيشه، ولازمة أساسية فى كل مقال عن الوضع فى مجالات الفن والإبداع على وجه الخصوص. الرأى الشائع والمتداول هو أننا نعيش فى الزمن الخطأ، فى مقابل المحظوظين الذين عاشوا ونهلوا من ينابيع «الفن الحقيقى الصادق» فى أزمنة ماضية.

ظاهرة التأسى على الماضى قديمة قدم الشعر العربى الذى كان يبدأ دوما بوصلة بكاء على «الأطلال وبقايا الديار» بصرف النظر عن موضوع القصيدة. وفى الترجمة الحديثة لهذا التراث الأصيل أصبحنا نختم أغلب الأحاديث بوصلة نحيب على الزمن الجميل الذی ذهب ولن يعود، ونحط من شأن معاصرينا من مبدعين وفنانين.

لم يفعل الشاعر العظيم بيرم التونسى شيئا مختلفا عندما كتب قصيدته الرائعة يا اهل المغنى:

يا اهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله

داحنا شبعنا كلام ماله معنى يا عين ويا ليل ويا آه

***

طلعت موضه غصون وبلابل شابط فيها حزين

شاكى وباكى وقال مش عارف يشكى ويبكى لمين

واللى جابتله الداء والكافيه طرشه ماهش سامعاه

يا اهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله

***

ردى عليه يا طيور بينادوا ارميله الجناحين

وانت كمان يا وابور الوادى قله رايح على فين

قله اياك يرتاح يا وابور ويريحنا معاه

يا اهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله

وغنى عن الذكر أن بيرم هنا يشير لأغنيتى: «يا بابور قول لى رايح على فين»، و«بلبل حيران»، للملحن والمطرب محمد عبدالوهاب. الأولى كتبها أحمد رامى والثانية لأمير الشعراء أحمد شوقى! وكلهم يتمتعون اليوم بقداسة خاصة باعتبارهم من أيقونات الفن والأدب فى «الزمن الجميل»، رغم أن بيرم كان يرى أنهم: «حافظين عشرة اتناشر كلمة نقل من الجرنال، حب وشوق وأمل وأمانى وصد وتيه ودلال، واللى اتعاد ينزاد يا إخواننا وليل ونهار هواه، يا اهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله.

المدهش فى الأمر أن المسيطرين على الخطاب المتداول فى المجال العام اليوم، والذين يروجون فى إعلامهم لصورة مصر القوية القادرة المبهرة التى تتسيد العالم، يبيعون لنا أيضا وبالتوازى صورة مصر المفلسة والعاجزة إبداعيا فى شكل برامج تعجز عن مواكبة الحاضر، وتجد ضالتها فى استحضار الزمن الجميل وحكاياته بوجوه من الماضى تقدم هذه المنتجات الإعلامية وتتصدرها. ويواكب الحالة مجهود إعلانى يعيش على نفس النسق ويستحضر برعاية شركات المحمول والاتصالات «الإعلان المبهر» الذى يترقبه الجمهور فى رمضان من كل عام. وفيه يعاد إنتاج الماضى بوجوهه وألحانه، بل وبمجهود تقنى مبهر يحيى العظام وهى رميم، ويستحضر فنانين رحلوا عن عالمنا، فيكتمل مناخ إعلانى وإعلامى، كأرضية لمناحة جماعية كبرى تليق بشعبنا العظيم.

وبصرف النظر عن ارتفاع صوت الأبواق الناعقة فى المناخ الإعلامى أحادى الهوية والتوجه، والتمويل، الواقع يقول إننا بصدد إعادة تشكيل لصياغات الفن والفكر بشكل يتحدى قوالب وأنماط الإنتاج والتفكير على مستويات عدة. ورغم كل الانتكاسات فى
مجالات حرية الرأى والتعبير، وفى المناخ السياسى المبهم والمختنق، وفى حالة الحريات المزرية، ناهيك عن الاقتصاد والتعليم والصحة، إلا أن تغييرا حقيقيا ومبدعا بدأ بالفعل مع الأجواء التى أحاطت بثورة الخامس والعشرين من يناير كان من نتاجه ظهور تجليات عديدة لا تقف وراءها جهة أو مؤسسة أو دولة أو ممولين. هو تغيير يقوده مئات المبدعين الذين يحتفى بهم خارج مساحات النشر أو البث المحتلة. مبدعون يكتبون ويغنون ويرسمون ويصنعون فنا جميلا، يتحدى القوالب والأنماط التى سادت على مدى عقود. هؤلاء هم الذين سنحتفى بهم بعد أعوام باعتبارهم أيقونات الزمن الجميل الذى نعيشه الآن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved