المَكْتَبة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 10 يوليه 2020 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

في لحظةٍ مَصيريةٍ، كان على الكُتُب الكثيرةِ التي احتلَّت أَرفُفَ المَكتبةِ لسنواتٍ طِوال، أن تغادرَ مَوقِعَها وأن تبدأ حياةً جديدةً في أماكنٍ أخرى.
***
أعرفُ عددًا مِن الأصدقاءِ الذين اضطُروا إلى إخلاءِ مَكتباتِهم ذات يَوم؛ إما بدافعِ الانتقالِ إلى بيتٍ جديد، أو لأن الأغراضَ قد تراكَمَت مِن حَولِهم وباتَ وجودُ المَكتَبةِ عائقًا أمام استغلالِ الحائطِ، أو الحوائطِ التي تشغلها.
***
قرَّرَ البعضُ أن يُهديَ مكتَبَته؛ بكُلّ ما فيها، إلى مَركَزٍ بَحثيّ أو مُؤسسةٍ أهليةٍ للاستفادة مِن مُحتوياتِها، والبعضُ أعلنَ عن رغبتِه في بيعِها، وقسمٌ ثالثٌ أخبر مَن يُوقن مِن اهتمامِهم بالكُتُب عن نِيته التَخلُّص مِنها، وانتظر أن يطلبوا مِنه الحصُولَ على عناوين مُنتقاه؛ تخدم ميولَهم في القراءةِ أو تتعلَّق بتخصُّصاتهم.
***
في نافلةٍ حكيمةٍ عن أحدِ المَشاهير؛ وقد سُئِل إن كان قد قرأ ما تضمَّنت مَكتبتُه الضخمة مِن رواياتٍ وأشعارٍ ودراسات، أنه قد غضبَ وثارَ وقال إن المَكْتَبَةَ ليست لخزنِ ما انتهى مِنه، بل لجمعِ ما توَجَّب عليه أن يُطالعَه؛ الآن أو غدًا أو في يومٍ قادم.
***
بَحَثت في فترةٍ من الفتراتِ عن مَكْتَبَة ذات حَجمٍ كبير، يُمكنها أن تستوَعِبَ مئاتِ الكُتُب مُتباينة الأحجامِ والاتجاهات، وأن تَحملَ عني همَّ توزيعِها بين الأركان. لم أجد في رحلةِ بَحثي ما أردت، ولا ما اقتربَ مما رَسَمت في خيالي.
***
كان المتاحُ عند أغلبِ المُتخصّصِين في صناعة الأثاثِ المنزليّ؛ "مكتبة" لا علاقة لها بالكُتُب، بل هي مُصَمَّمةٌ للاحتفاء بشاشة التليفزيون وما ارتبطَ به مِن أجهزةٍ مُكَمّلة ومُساعِدة. قطعةٌ مَصنوعةٌ لاستيعابِ أغراضٍ مُتنوّعة؛ لكنها قطعًا لا تُرحب بالكُتُب. لم أصادف بائعًا واحدًا تَفَهَّم طلبي في التوّ وأدرك المُبتغى.
***
بعد أن طرَقْتَ أبوابًا لا حصرَ لها، واستَعَنت بمَن توَسَّمت فيه دِقَّة الوَصفِ والمَعرفة؛ تأكَّدت أخيرًا مِن حُمق سؤالي؛ فالمَكتبة قد أصبَحَت مُرادفًا لقطعةٍ بدت أعظمَ قيمة وأوسعَ انتشارًا هي "النيش"، والنيش الأنيق يتوَسَّطه بلا جدال ذاك الفراغُ المُحَبَّب الذي يتناسب وحَجم الشاشة، إضافة إلى جانبين مُخصَّصَين للزينةِ، وربما لحشرِ وتكديسِ أشياءٍ لا مكان لها في بقيَّة الحجرات.
***
مع الشُّروع في فَرزِ الكُتُب وفَصلِها وإعادةِ تَصنيفِها، تَبيَّنت أن أغلبَها لا يزال ينتظر القراءةَ، وأن ما احتفظت به بعد قراءتِه أكثرَ مِن مَرَّة؛ لا يُمكنني التفريطَ فيه، بل وعثرت على نُسخٍ مُكرَّرة مِن بَعضِ العناوين، ابتعتها لأسبابٍ مُتباينة؛ فشل في العثورِ على نُسختي الأصليةِ، أو طَبعة تبدو أجملَ غلافًا، أو ترجمة أكثرَ دقَّةً وسلاسة، وأحيانًا حبًا في كتابٍ لن أخجلَ مِن ابتياعه مرةً ثالثة.
***
في أزمنةٍ ماضية؛ مَثَّل وجودُ مَكْتَبةٍ ضِمن مُكونات البُيوتِ طاعنةِ السّن؛ تقليدًا عريقًا. المُوسِر مِنها تضمَّن بين حجراته حُجرةً كاملةً مُخصَّصَة للمَكتبِ والمَكتبةِ والكُتُبِ، ومُستلزماتِ القراءةِ والكتابة التي اشتملت على المقعدِ المُريح والإضاءةِ المُناسبة. بُيوتٌ أخرى اكتفَت بأرفُف مُتقاربة بسيطةِ التكوين، لا هدف لها إلا استقبال الكُتُب، والحفاظ عليها من عوامل التعريةِ المُؤذية. في الأحوالِ كُلها لم تكُن المَكْتَبَة التي نعرفها هي مَوضِع التلفزيون المُختار، ولم يكُن التلفزيون نفسه بحاجة إلى أكثر مِن منضدةٍ عاديةٍ ليستقرَّ عليها، وأحيانًا ما عَيَّن له أهلُ البيتِ دولابًا خشبيًا صغيرًا، له بابٌ مُستقلٌ يُمكن إنزالُه كي يُخفيَ الشاشة، أو رفعه لأعلى عند الاستعمال.
***
تراجَع دَوْر المَكتبةِ بمُرورِ السنين وتَضاءَلَ، وتوارَت أهميتُها شيئًا فشيء؛ مُفسِحَةً المكان لما هو أكثرَ حَدَاثة وأعلى مَكانَة. لم يَعُد الكتابُ بدورِه مَصدرًا وحيدًا أو رئيسًا للمَعلومةِ، ولم تعُد في الناسِ طاقةٌ للقراءةِ، ولا بقي صَبرٌ على قلبِ الصفحاتِ واقتفاءِ السُّطور.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved