في الذاكرة.. دبلوماسية ملهمة
يوسف الحسن
آخر تحديث:
الإثنين 10 يوليه 2023 - 7:00 م
بتوقيت القاهرة
شهدت قبل أسبوعين، لحظات لقاء توهجت فيه ذكريات زمن جميل، وأضاءت فيه نفوس المشاركين، من سفراء ودبلوماسيين متقاعدين، تشرفوا ذات يوم بحمل رسالة وطنية نبيلة، وأنجزوا واجبا تجاه وطن كان يعيش مرحلة تأسيسية ثقيلة وصعبة، وفى ظل أوضاع داخلية وخارجية معقدة، وبناء دولة اتحادية ونظم وقوانين، وقواعد حكم عصرية، وتأليف قلوب، وبلورة شخصية قانونية دولية، وكسب اعتراف إقليمى ودولى، وتشييد أسس متينة لقوة ناعمة مقنعة ومؤثرة، وتجاوز إشكاليات وأزمات حدودية، وسك نمط دبلوماسى، يحمل أخلاقيات تضامنية وإنسانية وتعاونية، وفعل الخير، من غير منة ولا تمييز، ويمارس سياسات وعلاقات عصية على الاستقطاب، وقادرة على الإبحار فى عالم ملىء بالتحديات والعواصف، وتقديم الدولة الجديدة، كدولة نافعة لأهلها وللعالم.
كان اللقاء، يحمل رسالة تقدير وعرفان من وزارة الخارجية، لجهود دبلوماسيين متقاعدين، فى خدمة المصالح العليا للدولة، فى العقود الأولى لنشأتها، كما كان اللقاء أيضا لفتة طيبة، ومبادرة مقدرة من سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية، وحرصه على توفير الحياة الكريمة، لهذه الكوكبة من السفراء والدبلوماسيين، وتعبيرا عن الحاجة لاستثمار خبراتها ومهاراتها ومعارفها، فى تنشئة وتأهيل أجيال دبلوماسية جديدة، وبناء جسور تواصل بين الأجيال، واستحضار تراث الدبلوماسية الإماراتية، فى عقودها الثلاثة الأولى على الأقل، باعتبار أن هذا الاستحضار ضرورى، لبناء الخبرة التراكمية، ولفهم الوقائع التى نعيشها اليوم، والتى يظل تأثيرها الممتد عبر الزمن.
• • •
فى ذلك الملتقى، وفى إطار «مجلس الدبلوماسيين المتقاعدين»، والذى يضم نخبة مميزة من السفراء السابقين، استدعى المشاركون، صورا ما زالت تسكن الذاكرة، بعضها رقيق كالحلم الجميل، وبعضها مائج بالحركة وشغف العمل واكتساب المعرفة، والإرادة الصلبة باكتشاف آفاق العلاقات الدولية وتعرجاتها فى عالم الحرب الباردة، وصراعات الاستقطاب والتنافسات الشرسة.
لكل حكاية يرويها دبلوماسى متقاعد، زاوية معينة، وفقا لتجربته وموقعه فى ذلك الزمن، إلا أن كل السرديات المهنية والسياسية والثقافية، ظلت مغروسة فى أرض واحدة وأهداف مشتركة، وجعلت الحياة والعمل الدبلوماسى وقتها ذا معنى ومغزى.
تتفقد وجوها لأصدقاء وزملاء، لم تلتقهم منذ سنين، أضاءت رفقتهم زمنا فيه الكثير من الأحلام والتحديات والمخاطر، لا تصافحهم أو تعانقهم إلا ويرتعش الوجدان، نتذكر أصدقاء رحلوا إلى دار البقاء، وآخرين استشهدوا، أو جرحوا وهم فى خط الدفاع الأول فى بيئة العلاقات الدولية المعقدة، زملاء ملكوا نخوة الرجال، وعافية الوفاء، والإخلاص للوطن ولقيادته، وتآخوا مع الفضائل الإنسانية، وجسّدوا عمليا قيم مجتمعهم وثقافته وتراثه وطموحاته، وانفتحوا على ثقافات أمم وحضارات، والتزموا بقواعد العمل الدبلوماسى المعتمدة دوليا، واستوعبوا تقاليده ونظمه، وانخرطوا بتؤدة وصبر فى بيئة الشئون والعلاقات الخارجية، نتذكر أستاذنا و(نوخذتنا) فى رحلة الدبلوماسية الأولى، معالى أحمد خليفة السويدى، أطال الله فى عمره وصحته، أول وزير خارجية، والشهيد سيف غباش، رحمه الله، وآخرين قادوا ركب الدبلوماسية فى الداخل والخارج، بأمانة ومسئولية، وشغف نبيل ونجاح، وتحملوا مشاقه.
حضرتْ فى هذا الملتقى، ذكريات لمواقف ومشاعر، وأحداث ونقاشات ومؤتمرات وحوارات (مع الاتحاد الأوروبى، والكتلة الأفريقية، وأخرى فى الشرق والغرب) ومشاركات فى ندوات وورش عمل ومفاوضات هنا وهناك، فى عواصم ومدن نائية، وأخرى ملتهبة أو مأزومة، دبلوماسية نشطة وواثقة بنفسها، وذات مصداقية وتأثير فى أزمات أو حروب أو نزاعات أو تسويات أو إنعاش أو دبلوماسية وقائية.
افترقنا فى الأمكنة، لكن ظلت سيرتهم راسخة فى الذاكرة، نتذكر ألوانها وزواياها، وفرحها وتعبها، وجوه لم تعرف الغلظة، وبشرت بالأمل، واجتازت الصعاب، وبأخلاقيات «مدرسة زايد الدبلوماسية» الرفيعة، وعمادها «المسئولية أمانة».
أصدقاء ماضون بالسنين إلى الأمام، من دون ضجر فى الحياة، يحاولون اكتساب حيوات جديدة، والتفكر فى تغيرات العالم وثقافاته اللاهثة، وتحولاته السياسية، ومواصلة العطاء الفكرى، ومشاركة أجيال طالعة، الخبرة وذاكرة الزمن الأول، وترسيخ دروسه وعبره، من أجل الحاضر والمستقبل.
ينشغل بعضهم فى أسئلة السياسة الشائكة، أو بأسئلة مجتمعية وحياتية، وأخرى مشاغبة، تحرضهم حتى على السخرية من أنفسهم.
قد يجد بعضهم فى الحياة بعد التقاعد معانى جديدة، وفرصة حقيقية مع الأسرة والأبناء والأحفاد، وقد يعانى البعض هواجس العمر، من مرض أو عزلة اختيارية، أو توقا للتواصل الواقعى (وليس الافتراضى) مع رفاق الذاكرة المشتركة، فى «نادى دبلوماسى»، بأنشطة ثقافية واجتماعية، أو فى منبر ثقافى وحوارى، يسهم فى تهيئة «مسارات ثانية» لدبلوماسية غير رسمية Track Two Diplomacy، تفتح مسارب غير مطروقة، وقنوات خلفية، لحوارات مع ثقافات أخرى، ومنابر مماثلة فى العالم، وتستثمر فى خبرات ومعارف متقاعدين دبلوماسيين وأكاديميين وشخصيات عامة مؤثرة وعالمة، كخلية تفكير مستقلة، تخدم المصالح الاستراتيجية للدولة.
تذكرت الشخصية الأسطورية، فى الميثولوجيا اليونانية، «سيزيف»، صاحب الصخرة التى لم يتخلّ عن حلمه، فى دحرجتها إلى أعلى الجبل، رغم شعوره بالتعب والإرهاق.
قلت لصديقى، والملتقى ينهى أعماله؛ إن التقاعد.. يمنحنا الحكمة والهدوء النفسى والفكرى، ضحك صديقى وقال؛ من بركات التقاعد يا عزيزى.. عدم الحاجة لطلب إجازة.
أيها الأصدقاء.. العالقون فى الذاكرة، من حضر منكم ملتقانا، ومن غاب لسبب أو لآخر، أحييكم وأسلم عليكم.