«فاطمة نصر».. فى وداع ناشرة عظيمة

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: الجمعة 10 أغسطس 2018 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

كان بودى أن أستكمل الكتابة هذا الأسبوع عن الكاتب القدير مجيد طوبيا الذى نسيناه، وعرضت فى مقال الأسبوع الماضى لمبادرة تكريمه وإحياء آثاره وروائعه الأدبية القيمة؛ وكنت أنوى أن أعرض فى هذا المقال لبعض سماته الكتابية فى الرواية والقصة والمقال، وعن جماليات الشكل الروائى والقصصى فى نماذج منتقاة من أعماله المهمة.
لكن خبر رحيل مترجمة وناشرة عظيمة بحجم وقيمة اسم المرحومة د.فاطمة نصر؛ صاحبة دار سطور والمسئولة الأولى عنها الذى داهمنا مطلع الأسبوع الفائت، جعلنى أؤجل استئناف الحديث عن القدير مجيد طوبيا ــ مد الله فى عمره ومتعه بالصحة والعافية ــ وأن أخصص حديث اليوم للمرحومة فاطمة نصر؛ إحدى رائدات العمل الثقافى فى مصر والعالم العربى، وصانعة حقيقية من صناع الثقافة المصرية المجهولين، وما أكثر العظماء المجهولين فى هذا البلد!
فى هدوء ووداعة يليقان براهبة علم ومعرفة حقيقية رحلت المترجمة القديرة، مؤسسة دار سطور للنشر ومديرتها، وأستاذة الأدب الإنجليزى ذات الصيت والاحترام، وهى التى أنجزت بمفردها (أو بالاشتراك) ــ نشرا وترجمة وتحريرا وإصدارا لدورية ثقافية رفيعة المستوى ــ ما لم تنجزه مؤسسات بأكملها.
حق لأسرة النشر والترجمة والمعرفة فى مصر والعالم العربى أن تحزن وأن تنعى السيدة الجليلة التى قدمت إسهاماتها القيمة للثقافة العربية، ولغة الضاد، لما يزيد على ثلاثة عقود كاملة، قدمت ذلك كله فى هدوء وتجرد، ومن دون صخب ولا ضجيج ولا «بروباجندا» زائفة.
فقط كانت تعكف على اختياراتها الممتازة من أحدث الكتب الثقافية والعلمية التى تهم القارئ العربى وتلمس اهتمامه وتحلل أوضاعه وتكشف الغامض والمسكوت عنه وما بين السطور ضمن إصدارات «سطور» التى صارت علامة على الاختيارات الرائعة القيمة، والكتب المرجعية المهمة، والإصدارات التى لا غنى عنها لقارئ حقيقى ومثقف جاد وباحث دؤوب..
نظرة سريعة على قائمة إصدارات (دار سطور) التى أسستها وأدارتها الدكتورة فاطمة بدأب وإصرار، ونظرة على الترجمات التى أنجزتها وحدها سنذهل من هذه القدرة الوافرة على العمل والإنجاز والطاقة الجبارة التى بذلتها وأنفقتها فى رحلة حياتها.
هذه السيدة العظيمة كان اسمها يتردد فى حياتى وبين جدران مكتبى ومكتبتى منذ كنت صبيا يافعا، ثم شابا طموحا، ثم كهلا عركته الأعوام والسنون، أدركت أن ما قدمته السيدة الفاضلة لى ولأبناء جيلى، ولمن قبلى وبعدى، لم تقدمه مؤسسات بحالها. ورغم ذلك فلم أقابلها فى حياتى ولا مرة، ولم أكن أعلم حتى شكل ملامحها حتى وفاتها، ولم أر لها صورة واحدة أو حديثا صحفيا واحدا طيلة 30 عاما هى رحلتى مع القراءة والكتابة والنشر.
بفضلها قرأت كتبا كثيرة استلفتنى موضوعها وطرافة محتواها وجدة عرضها، كانت ــ رحمها الله ــ تتغيا فى اختياراتها كل ما يهم القارئ ولا يبعد عن دائرة المعرفة والمتعة معا، وكانت تحرص كل الحرص على سلاسة الترجمة وانسيابية العبارة، وكأنها كانت تتجه بخالص مجهودها إلى القارئ العام والقارئ البسيط من دون أن يكون ذلك على حساب المحتوى والفكرة والمعلومة والعرض الشائق.
تعرفت على كتب كارين أرمسترونج من خلالها؛ خاصة كتبها «محمد صلى الله عليه وسلم»، و«القدس مدينة الديانات الثلاث»، و«الله.. لماذا؟»، وآخر كتبها المترجمة إلى العربية قبل عامين «حقول من الدماء.. الدين وتاريخ العنف»، فضلا على اختياراتها الأخرى من الكتب المهمة فى مجالات علم الاجتماع السياسى، والدينى، والنقد الثقافى، والتاريخ المعاصر، والإنسانيات، وتاريخ العلوم.. إلخ
هذه السيدة الجليلة تركت وحدها قرابة الـ 100 كتاب قامت بترجمتها وحدها أو بالاشتراك، وأصدرت عبر رحلة دارها التى كانت تعدها صغيرة وهى كبيرة مقام قرابة الـ 300 كتاب، ولن أعول على أى دعوة توجه للمؤسسة الرسمية كى تتذكر هذه السيدة، وأن تكرمها بما يليق بإنجازها وعملها الثقافى الضخم. لكنى أعول دائما على الأثر الحقيقى الذى تركته. نعم. لقد تركت ما سيخلد اسمها بحروف من نور فى كتاب لا تمحى سطوره؛ كتاب المعرفة والحضارة والتنوير.
رحمه الله الدكتورة فاطمة نصر، وأسكنها فسيح جناته، وألهم ذويها الصبر والسكينة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved