بيروت القلوب

طلعت إسماعيل
طلعت إسماعيل

آخر تحديث: الإثنين 10 أغسطس 2020 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

كل هذا الحب تخبئه لك القلوب وتظهره، ولم لا؟ فأنت وردة أريج عطرها لا تضاهيه عطور أزهار البرية التى يجمع الناس على حسن شذاها.. نعم أنت المدينة التى تهفو إليها النفوس وتقع فى غرامها العيون قبل أن تراها، ولا يفلت العشاق من حبائلها عند السعى فى مناكبها.. فأنت فى أفئدة المحبين عروس تتسربل فى إهاب الضياء، وشمس تمنح الدفء فى ليالى الشتاء الطويلة، ونجمة يهتدى بها من ضلوا الطريق فى بحار ضاعت شواطئها، من فوق متن سفينة يخشى ملاحوها الغرق.
نعم كل هذا الحب لك أنت بيروت، التى مشينا يوما فى شوارعك، نتلمس طرقا عبدتها المحبة، رغم المحن، مع رفقة كانت تخرج لتوها من بين حطام حرب أهلية أتت على الأخضر واليابس، لكنها لم تنل من عزم النفوس.. ليس غريبا أن تسيل الدموع على مصابك الأليم، وعلى أطلال مرفئك المنكوب، بعد أن تكالب عليك حفنة من الفسدة والمتاجرين بالأوطان، لكنك قادرة فى كل مرة على هزيمة الدمار، كالعنقاء تنهض دوما «من تحت الرماد»، لتعودى صبية فى أبهى الحلل.
قلوب محبيك يا «ست الدنيا» التى أخذتها الفاجعة، ستحتاج لسنوات حتى تلتئم جروحها وتصفو نفوسها من هول الصدمة التى خلفها خراب المرفأ، وصنعتها صراعات القصور وملوك الطوائف، وخدم القوى الإقليمية والدولية التى ترى فيك دائما متنفسا لأحقادها، وساحة لتجريب الألاعيب والدسائس على شعوب مغلوبة ــ للأسف ــ على أمرها بفعل ميراث طويل من استعمار قديم جديد، واستبداد شرقى يأبى الغروب.
دمر الفساد والاستبداد عاصمة الرشيد بغداد، قبل أن يزحف بالخراب على طرابلس الغرب، ويحاصر صنعاء، ويرمى بحممه على دمشق، ويتربص بكل مدينة يحكمها أى مستبد، وإن رفع شعار «العدل» المزيف، وكما كان حريق القاهرة فى 26 يناير 1952، فارقا فى تاريخ مصر ومحيطها، سيكون انفجار 4 أغسطس فى بيروت فاصلا لما قبله، ليس فى تاريخ لبنان فحسب، بل فى فضاء منطقة تتناهشها الذئاب.
اليوم ينهال عليك يا بيروت التعاطف من كل حدب، لكن فرقى بين الحب الصادق، والعطف الزائف الذى يرنو إلى تحقيق المصالح على جثث الضحايا وركام البيوت المهدمة، فاحذرى ممن يستغلون دائما دمار المدن لتثبيت أوضاع كانت هى السبب الرئيس فى خرابها.. سيأتون إليك من وراء البحار لذرف دموع التماسيح، ومساعدة طوابيرهم الخفية على تجاوز لحظة لوح فيها المتظاهرون الغاضبون فى شوارعك بمجسمات المشانق لكل فاسد، و«الحساب» لكل مهمل ومتقاعس.
تمد بعض القوى الإقليمة والدولية الآن يد المساعدة، لانتشال بيروت من محنتها، وإعادة الإعمار، وتوفير الملجأ لمئات الألوف ممن دمر انفجار المرفأ منازلهم، ولا بأس فى ذلك، لكن لكل «عون» ثمن، فعندما يتجول الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون فى شوارع بيروت مختالا كالطاووس وسط الأنقاض، فإن «الأم الحنون» عينها على الأصوات التى صاحت « وا انتداباه.. وا فرنساه»، وليس لسواد عيون المشردين.
فرنسا التى كانت تضع الخرائط وتقسم الأوطان مع الحليف البريطانى يوما ما، لم تعد هى فرنسا الآن، وخائب الرجاء من يظن أن الانسلاخ من جغرافية وطنه يمكن أن يحل مشاكله، الحلول دائما تكون من الداخل، وإن تأثرت بعوامل تأتى من الخارج، لأنه «لا يحك جلدك مثل ظفرك»، هكذا يقال، فلا يراهن أحد على الخلاص من الفساد والاستبداد، باستعارة البوارج التى طالما حملت الدمار من وراء البحار.
احذرى بيروت «وكلاء الشيطان»، و«قومى من تحت الردم كزهرة لوز فى نيسان» كما قال نزار، فالكل منك لا يزال «يغار».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved