11 سبتمبر.. انطفاء الوهج

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 10 سبتمبر 2009 - 9:07 ص بتوقيت القاهرة

 جرت محاولة فى عهد الرئيس بوش لغرس حادثة تفجير برجى التجارة فى الوعى القومى الأمريكى باعتبارها بداية مرحلة جديدة فى تاريخ الولايات المتحدة. وبرحيل بوش واتضاح خفايا كثيرة ووقوع تطورات جوهرية، يوجد الآن اعتقاد بأن المرحلة، وهى بالفعل مرحلة جديدة، لم تبدأ بتفجير البرجين، ولم تنته عنده، وإن احتل المكانة الأكثر تميزا بين كل أحداث العقدين الأخيرين. وبتأثير الغرس الأيديولوجى فى عهد بوش، سوف يظل بعض المؤرخين يعتبر أحداث 11 سبتمبر نقطة فاصلة بين مرحلة الحرب الباردة، وهى المرحلة التى تصدت فيها أمريكا وحلفاؤها الغربيون للشيوعية والاتحاد السوفييتى كعدو هدفه الأساسى فى نظرهم تدمير الديمقراطية الغربية، ومرحلة الحرب ضد الإرهاب، وهى المرحلة التى اختارت أمريكا وحلفاؤها الغربيون وحلفاء آخرون الإسلام كعدو هدفه الأساسى ــ مثل الشيوعية ــ تدمير الديمقراطية الغربية. سيراه هذا البعض من المؤرخين نقطة البداية لمرحلة جديدة فى التاريخ الأمريكى منفصلة عما سبقها.

وأظن أن جماعة بوش أخطأت خطأ جسيما حين روجت لمحورية هذه المرحلة واعتبارها نقطة انطلاق مرحلة جديدة. ولعلها تعمدت فى مواجهة هذا الخطأ مطروحة الآن وستبقى فى الغالب مطروحة لعقود وربما لقرون قادمة فرضية أن تفجير البرجين جاء امتدادا لتطورات شديدة الأهمية فى المجتمع الأمريكى خاصة فى فكر الطبقة الحاكمة. ففى العقدين السابقين على التفجير، أجريت على الوعى العالمى العام ــ إن صح التعبيرــ ما يشبه عمليات غسيل المخ. وأستطيع من تجربة علاقاتى الشخصية أن أقرر أن هذه العملية امتد تأثيرها إلى كثير من المفكرين والعاملين فى الشأن السياسى فى مصر وغيرها من الدول العربية.

وقتها تعرضنا لموجة من الأطروحات والمفاهيم سادت وطغت. أربعة على الأقل من هذه الأطروحات أو المفاهيم تصدرت الموجة وهى العولمة وصدام الحضارات ونهاية التاريخ والحرب ضد الإرهاب. وأعتقد ببعض الثقة أن قراءة أصول هذه المفاهيم الأربعة التى سلبت لب علماء السياسة والاجتماع والمثقفين بشكل عام فى شتى أنحاء العالم توحى بأن المصدر «الجينى» لجميعها واحد. وأعرف بكثير من الثقة أن المفاهيم الأربعة تفتقر إلى وضوح التعريف ودقة تحديد الحدود.

ولا شك أن العولمة كانت دائما، ومازالت، المفهوم الذى يتصدر قائمة المفاهيم الأربعة بعدد هائل من محاولات التعريف. وقد تداخلت فى هذه المحاولات السياسة والاقتصاد والمال مع منظومات القيم والثقافة مع أنماط سلوكيات البشر وممارساتهم، وكانت المحصلة فى جميع الحالات تهويمات وتعميمات وشطحات أيديولوجية وصياغات تعبر عن نوايا إمبراطورية فى أحسن الأحوال وعن غرائز قومية ووطنية ودينية وعنصرية فى أسوأ الأحوال. بدت معظم هذه المحاولات فى حينها منطقية، إذ وقعت فى سياق تاريخى يسمح باستقبالها والاقتناع بها.

كانت أمريكا خارجة لتوها من صراع طويل مع الاتحاد السوفييتى وحروب أغلبها بالوكالة وبعضها مباشر ضد الشيوعية، وكانت الفجوة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء جاهزة لاستقبال أنواع شتى من فكر متطرف تسد جانبا منها، وتتفادى انفجارات سياسية وطبقية، بخاصة من الأمريكيين الملونين ضد الأمريكيين البيض.

أذكر كيف جرت التوعية لهذه المفاهيم ونشرها على العالمين باعتبارها مطلقات أو حتميات تاريخية، حتى ساد الاعتقاد بين الكثيرين، وبعضنا فى مصر منهم، بأن العولمة مسيرة حتمية تفرضها ظروف «عصر ما بعد انهيار الاشتراكية»، وتدفع إليها حاجات «الإمبراطورية التى لا غنى عنها»، وأن الساحة الدولية التى خلت من أيديولوجيات منافسة تتطلب دماء جديدة وأسواق مفتوحة، وتتطلب بإلحاح أشد سقوط الحدود السيادية والثقافية سعيا لتسطيح العالم حسب التعبير الذى روج له الكاتب الأمريكى اللامع توماس فريدمان.

هكذا كان الحال مع تبريرات ومحاولات تعريف ثم ترويج مفهومى صدام الحضارات ونهاية التاريخ.

كلاهما خرج إلى العلن ليبشر بنهاية «السياسة». كلاهما خرج يروج لفكرة أن الصراعات الدولية تنشب وتتصاعد وتنحسر لأهواء وتقاليد حضارية وثقافية وبالأحرى دينية. ولسنوات احتلت أطروحة صدام الحضارات مكانة النجم البارز فى سماء الفكر السياسى وسادت على غيرها من نظريات الصراع الدولى وهيمنت فكرا ومنهجا وممارسة. كان المطروح أن تتوارى فى ظلها أدوار المال والنفوذ وتوازن القوى وصداماته لتحل محلها صدامات بين قوى «تاريخية» وقوى «روحية»، وما السياسى فى ظل هذه الصدامات إلا التابع للقوى الحضارية المتصادمة والمنفذ لتعليماتها «المقدسة» غالبا.

هكذا الحال مع مفهوم نهاية التاريخ الذى نبت فى تربة المحافظين الجدد منذ عقد الستينيات ونما فى الثمانينيات وبلغ الذروة فى التسعينيات حين حمّله الرئيس جورج بوش رسالة سماوية «لإنقاذ العالم من قوى الاستبداد ونظريات التخطيط الاقتصادى وأحلام بتعددية فى قيادة النظام الدولى ومبادئ سيادة الدولة ومشاعر الاحترام للقانون والمعاهدات الدولية»، وكان السبيل الوحيد فى نظر قادة هذا التيار، بخاصة فرانسيس فوكوياما صائغ المفهوم والنادم عليه فيما بعد، لتحقيق هذا الهدف هو فرض النموذج الليبرالى الغربى المتجسد فى الولايات المتحدة وإيقاف زحف قوى الظلام والاستبداد القادمة من «الشرق».

وقع فى تصور «المحافظون الجدد»، أن الدفاع عن أمريكا كمركز إمبراطورى يكتمل عندما تسود الليبرالية الجديدة ومبادئ حرية التجارة ويتوقف زحف حضارات أخرى، بخاصة تلك التى تبدو منظومتها الحضارية متعارضة مع منظومة الحضارة اليهودية المسيحية «الغربية»، كان ضروريا تحقيق انتصار ضد نموذج لحضارة نقيض لحضارة الغرب، تماما كما بدا ضروريا قبل عقود تحقيق انتصار فى فيتنام ضد نقيض حضارى من نوع آخر، وكان أيضا من الشرق. نعرف الآن أن الاختيار منذ الثمانينيات، وبالتأكيد فى التسعينيات، وقع على ما أطلقوا عليه الإرهاب الإسلامى أو الجهاد كنموذج لعدو شرس يستحق أن تشن ضده حرب طويلة طويلة طويلة، كما وقع الاختيار على أفغانستان ساحة لهذه الحرب، وعلى العراق هدفا للغزو والاحتلال. وكان العنوان الرئيسى هو الحرب ضد الإرهاب، مع العنوان الفرعى الذى لم ينتبه إليه الكثيرون فى ذلك الحين وهو «تدشين عصر عربى جديد» صاغت خطوطه العريضة وثيقة «مشروع من أجل قرن أمريكى جديد» التى صدرت عن مركز بحثى يحمل الاسم ذاته.

******

حدث مع تعريف الإرهاب ما حدث مع تعريف العولمة وصدام الحضارات ونهاية التاريخ. كان لازما رفض وضع تعريف تتفق عليه الدول خشية أن يدخل فى التعريف حق الشعوب فى ممارسة المقاومة المسلحة لتحرير بلادها من الغزو والاحتلال والاستيطان. إذ قامت سياسة أمريكا العسكرية على توقع دائم بأن سياساتها الخارجية بخاصة أنشطتها العسكرية عبر العالم ستواجه بنوع أو آخر من المقاومة. من ناحية أخرى، خشيت أمريكا ودول غربية أخرى وروسيا وإسرائيل من أن اشتراك عدد كبير من الدول فى صياغة تعريف الإرهاب سيوجد صعوبات أمام شن حروب استباقية لإجهاض المقاومة هنا وهناك.

وعلى كل حال كانت معظم الأنظمة الحاكمة العربية راضية عن التعريف الأمريكى للإرهاب لأنه يسهل عليها اتهام المعارضين لها بتهمة الإرهاب، ويمكنها من تمديد العمل بقوانين الطوارئ.

فى هذا الإطار نستطيع أن نفهم الإصرار الغربى خلال سنوات التسعينيات على تنصيب الإرهاب «الإسلامى» عدوا لدودا للغرب. ولعل بعضنا يذكر المؤرخ ماليز روثفين الذى نشر مقالا فى صحيفة إندبندنت أون صانداى البريطانية واستخدم فيه متعمدا تعبير «الفاشية الإسلامية» والتقطه منه الكاتبان هتشيسن وشوارتز فى مجلة ذى نيشن The Nation معتمدين الإساءة إلى الإسلام الزاحف من الشرق بربطه بعقيدة سياسية هى الأسوأ على الإطلاق بين جميع عقائد الحضارة الغربية.

******

لم يعد خافيا أن مفهوم الإرهاب بدأ مسيرته نحو السقوط بعد أن سقطت مفاهيم العولمة ونهاية التاريخ وصدام الحضارات. كثيرون فى الغرب لا يتصورون الآن أن الإرهاب يشكل هذا التهديد للأمن والسلام الدوليين الذى يجرى تصويره عليه. إن أقصى ما حققه الإرهاب من إنجازات أو خسائر حتى الآن لا يخرج عما وقع فى نيويورك يوم هوى برجا التجارة الدولية، وأى مراجعة لسجل الإرهاب فى السنوات الأخيرة ستؤكد أنه رغم سقوط ضحايا ووقوع فوضى وتدمير منشآت، لم يكن الإرهاب بالضخامة الكارثية التى تكفى لترشيحه عدوا لحضارة الغرب أو للاستقرار والسلام الدوليين، أو يبرر حشد أكبر حلف عالمى فى التاريخ لشن حرب عالمية «طويلة طويلة طويلة» ضده أو بسببه. لنكن واضحين وصريحين أمام أنفسنا والأجيال القادمة ونعلن أن ما يطلق عليه الإرهاب لم يشكل فى أى يوم الخطورة التى تسمح بترشيحه ليكون العقبة الأعظم للتنمية والديمقراطية والتقدم فى دول أكثرها يستخدمه مبررا لإقامة الاستبداد وتقييد الحريات وشماعة تعلق عليها فشلها فى التنمية.

******

الحادى عشر من سبتمبر يفقد وهجه عاما بعد عام، وهو بالتأكيد لا يمثل نقطة فاصلة بين مرحلتين فى التاريخ الأمريكى بخاصة بعد أن سقطت المفاهيم الأربعة التى مهدت له، وهي العولمة ونهاية التاريخ وصدام الحضارات والحرب ضد الارهاب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved