فوق الطاولة وتحتها

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 10 سبتمبر 2014 - 8:27 ص بتوقيت القاهرة

رهاناته تهاوت أمامه بأكثر مما يطيق وضيقه بلغ مداه فبدت عباراته حادة.

بسخرية مريرة وصف السلطة التى يترأسها بأنها «خيال مآتة»، وهو اعتراف متأخر من رجل يوصف بأنه «عراب أوسلو« لكنه الآن الأكثر حنقا على ترتيباتها.

«السلطة.. أية سلطة؟».

«القوات الإسرائيلية على باب مكتبى وبيتى» و«إذا أردت أن أغادر رام الله فلابد أن أحصل على تصريح مسبق».

بنفس درجة السخرية وصف حكومة الوفاق التى تشكلت بالتفاهم مع «حماس» بأنها «لا شىء».

«الحكومة.. أية حكومة؟»

«لا توجد حكومة وفاق تمتد سلطتها إلى غزة التى تحكم بحكومة ظل».

«إما أن تكون السلطة واحدة والسلاح واحد والقانون واحد وإما لا شىء».

رغم اللهجة شبه اليائسة التى تحدث بها رئيس السلطة الفلسطينية «محمود عباس» فى «قصر الأندلس» بضاحية مصر الجديدة أمام نخبة من الصحفيين والإعلاميين فإنه لم يكن يقول كلاما اعتباطيا، ويقصد كل حرف.

تجلت فى سخرياته المريرة مما رآه فارغا أو لا شىء نزعة لا تخفى لقلب الطاولة على لاعبيها، وأن يذهب إلى الحافة بأسرع من أى محاولة للحاق به.

هو رجل يدرك أن قوته فى ضعفه، فالترتيبات السياسية والأمنية التى تلت «أوسلو» لأكثر من عقدين كاملين وأفضت إلى تهميش القضية الفلسطينية لا يوجد طرف دولى أو إقليمى واحد مستعد لتحمل نتائج إنهاء اللعبة كلها بحل السلطة الفلسطينية.

لم يعد يتحمل مهاناته السياسية والشخصية لكن لا أحدا آخر فى الإقليم والعالم مستعد أن يحتمل قلب الطاولة الفلسطينية.

لوح بشيء من الثقة بأن لديه أوراقا كثيرة قد تغير المعادلة.

قلت له: «اسمح لى يا أبومازن إنها ورقة واحدة.. أن تعلن حل السلطة الفلسطينية».

بابتسامة من يستشعر أن قوته فى ضعفه قال: «نعم» بينما لاحقه كبير مفاوضيه الدكتور «صائب عريقات» الذى كان يجلس بجواره: «لم يعد لدينا بديل آخر».

لم يكن هناك شيئا مفاجئا فيما أعلنه الرئيس الفلسطينى، فقد تواترت معلومات وانتشرت تسريبات تشير إلى أنه بصدد انتهاج خطة جديدة لم يكن هناك ما يقطع بصحتها.

سألته: «ما مدى صحة المحضر المسرب إلى صحيفة الأخبار اللبنانية لاجتماع ضمك فى العاصمة القطرية الدوحة يوم ٢٢ أغسطس مع حاكمها الأمير تميم ورئيس المكتب السياسى لحماس خالد مشعل؟».

أجاب: «بعد تدقيق ما نشر مع النص الذى كتبناه تستطيع أن تقول إنه صحيح بنسبة ٩٠٪».

القضية ليست من سرب المحضر المكتوب على أوراق رسمية لـ«مدير مكتب سمو الأمير» ولا حساباته فى التسريب رغم إثارتها بقدر ما هى نص المحضر نفسه الذى يكشف ويبين ما تحت الطاولة.

فى متنه ما يؤكد أن ثمة توافقا بين «فتح» و«حماس» على التحرك بطلب إنهاء الاحتلال والحصول على قرار دولى يعترف بدولة فلسطين وفق حدود (٤) يونيو (١٩٦٧) وعاصمتها القدس الشرقية وفق تفاهمات سبقت الاجتماع.

بنص عبارة «مشعل» فإن «حماس لن تكون جزءا من المشكلة بل جزءا من الحل»، لكنه يطلب الشراكة فى التفاصيل وأن يطلع عليها مسبقا.

وبحسب وزير الخارجية القطرى فإن «حماس ليس مطلوبا منها أن توقع على شىء»، فالكلام كله يتعارض مع خطابها التقليدى الذى يؤكد المقاومة خيارا وحيدا.

الخلاف على التفاصيل لا على المبدأ.. والمثير فى التوقيت أن القصف الإسرائيلى الهمجى على غزة لم يكن قد توقف بعد.

ومع ذلك كله فإن الشكوك أكبر من التفاهمات والفجوات أوسع من أن تردم فى مدى منظور.

هناك اتهامات مشرعة من السلطة بأن هناك حكومة موازية فى غزة و«مشعل» ينفى «غزة جزء من السلطة وأنت المسئول الأول».

«عباس» لم يقتنع بما قاله «مشعل» فى الدوحة وصوته ارتفع فى قصر «الأندلس» بالاتهامات ذاتها بلهجة أكثر حدة و«حماس» نحت إلى عدم التصعيد مع الرئيس الفلسطينى، فالبدائل أمامها ضيقة رغم اللهجة الانتصارية التى سادت خطابها السياسى بعد توقف العدوان على غزة.

الآن حكومة الوفاق الوطنى مشكلة مستعصية، فالإبقاء عليها ينال من احترام فكرتها وحلها يعود بالعمل الفلسطينى إلى المربع صفر.

المصلحة العامة تقتضى المضى فى المصالحة والتفاهمات إلى نهاياتها والشكوك المتبادلة تكاد تعصف بالتفاهمات كلها.

«عباس» يطلب أن يبسط سلطته على غزة و«حماس» تطلب أن تكون شريكا فى الضفة ولا أحد مستعد على الجانبين لشراكة حقيقية.

«عباس» يطلب ألا يكون قرار الحرب والسلام بيد «حماس» وحدها وقائمة اتهاماته تحاصر «مشعل»، بينما الأخير يطلب أن تتجاوز الشراكة عناوينها «توجد قيادة فلسطينية ونحن لسنا فيها، ما دام دخلنا المصالحة بدنا نطبقها بحذافيرها».

مضى الحوار يتأرجح بين الشكوك والريب والأسئلة المتبادلة فى التفاصيل.

«مشعل» سأل عنها و«عباس» رد عليه: «لا توجد تفاصيل. هناك كلمتان نقولهما لأمريكا.. إمام الموافقة على دولة فى حدود ٦٧ وترسيم الحدود أو لا.. وإذا قالوا لا عندنا الخطة البديلة».

بعيدا عن اتهامات «عباس» لـ«مشعل» بالكذب أو اتهامات الثانى للأول بأنه «طابخ شىء مع الأمريكان»، فأهم ما فى المحضر هذه الخطة البديلة.

بصياغة «عباس»، فالخيار محدد إما أن يكون هناك حل أو لا حل وعلى أساس الرد نتصرف ونوقف الاتصالات والتعاون الأمنى مع إسرائيل.

بصياغة «عريقات» فإن «إسرائيل تتحمل مسئوليتها كسلطة احتلال وتعتبر فلسطين دولة تحت الاحتلال من حقها الانضمام إلى جميع المعاهدات الدولية والاحتفاظ بعضويتها فى مؤسسات الأمم المتحدة وتبقى منظمة التحرير الفلسطينية».

وعندما سأل «مشعل»: «شو يعنى نقطة تحميل إسرائيل المسئولية؟»

أجابه «أبومازن»: «تستلم مسئوليتها كسلطة احتلال، هذه السلطة كلام فارغ، وعندها أطلب من الأمم المتحدة إزالة الاحتلال وتوفير الحماية الدولية».

اللعبة لن تجر على هذا النحو كأنها مباراة فى قواعد القانون الدولى. إنهاء السلطة الفلسطينية هو أفضل خيار ممكن بالنسبة لقضية عادلة تآكلت وحدة شعبها، أن تكون المعادلة بسيطة وواضحة: شعب يقاوم تحت سلطة الاحتلال بلا أوهام سلطة يصفها «أبومازن» مرة بعد أخرى وفى كل لقاء تقريبا بأنها «كلام فارغ» ولا أوهام أخرى فى حكم آخر لقطاع غزة المعذب.

فى إرباكات المشهد الفلسطينى شىء من السيريالية السياسية، السلطة التى أنشئت وفق اتفاقية «أوسلو» تفكر فى حل نفسها و«حماس» تتجه أن تكون شريكا كاملا فى أى مفاوضات مقبلة وفق الاتفاقية نفسها.

عندما تقلب الطاولة على لاعبيها فإن القواعد تختلف بفداحة، فلن يبقى شىء على حاله.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved