التيه العربى .. سقوط الدولة .. عودة الاستعمار كمطلب شعبى

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 10 سبتمبر 2014 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

تتهاوى الدول فى المشرق العربى، خاصة، وتتبدى ذاهبة إلى التفكك والاندثار، كاشفة عمق الغربة بين مجتمعاتها بعناصرها الآتية من عمق التاريخ وبين الأنظمة الحاكمة فيها.

تكشفت حقائق طمستها الحماسة للاستقلال والتحرر من نير الاستعمار. وتسبب الصراع على السلطة فى إعادة تظهير الخلل فى بنية نظام الحكم ومرتكزاته... وتدريجيا انتبهت شرائح فى المجتمع أنها مستبعدة عن السلطة، فى حين كشفت الممارسات أن أقليات قد طغت على أكثريات، أو أن «الجهوية» قد تحكمت فى اختيار القيادات، وأن الولاء للأقوى من بين النخب التى تصدت للحكم قد تجاوز الكفاءة والأهلية والتمثيل الجامع.

•••

تدريجيا، وعبر الممارسات المحكومة بمنطق السلطة، برز الانفصام بين المكونات العنصرية والدينية والمذهبية التى تفككت بسرعة عائدة إلى جذورها التاريخية، فاضحة القصور فى تعزيز الوحدة الوطنية الذى منع اندماجها عبر «الدولة» وفيها كشعب بحاضر واحد ومستقبل واحد، وإن تعددت الأعراق حاملة تراث الماضى.

وشهيرة هى خطبة الرئيس السورى الراحل شكرى القوتلى وهو «يسلم» سوريا إلى دولة الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة، بشخص الرئيس (المصرى) جمال عبدالناصر، إذ عدد فى كلمته التاريخية العناصر المكونة للشعب السورى، وبعضها متحدر من تاريخ ما قبل الأديان وبعضها الآخر من مستولدات «الفتنة الكبرى»..

هل من الضرورى التذكير أن دول المشرق، وبالتحديد فلسطين ولبنان وسوريا والعراق (والأردن ضمنا) قد أقيمت نتيجة تفاهم بين مستعمرين أجنبيين (بريطانيا وفرنسا) ووفق مصالحهما وضمنها المشروع الإسرائيلى وليس باعتماد حقائق التاريخ والجغرافيا وإرادة «الأهالى» فيها؟

... والتذكير بأن ثورات عدة قامت فى العراق ضد نظام الحكم الملكى الذى أقيم فيه بمعزل عن إرادة شعبه، وضمنا ضد «كيانه» الذى لا سند له من التاريخ. وإذا كان معظمها قد فشل فذلك لا يعنى أنها كانت عبثية.

بالمقابل فإن العهد الاستقلالى الأول فى سوريا قد أُسقط بعد أقل من أربع سنوات على إقامته من خلف ظهر «الثورة» ضد الاحتلال التى كانت أعجز من أن ترفض «الاستقلال»، وفى غياب السند الشعبى المتين الذى كان يجهر باعتراضه على الخريطة الانتدابية للكيان الجديد التى تجاهلت إرادة السوريين وتحدتها فى الفرز والضم لاسترضاء تركيا فى الشمال ومصالح بريطانيا فى الشرق، مع ارتكاز على «الطائفية» فى الغرب اللبنانى بكيانه المدوّل.

•••

لنعد إلى الحاضر فننظر فيه: لقد عاشت «دول المشرق» فى اضطراب دائم، ونادرا ما استقر النظام الحاكم فى أى منها.. وكان انعدام الاستقرار سببا فى تدمير الحياة السياسية المستولدة حديثا، والاعتماد أكثر فأكثر على المؤسسة العسكرية التى تولت مقاليد السلطة فعليا فى معظم هذه الأقطار على امتداد نصف قرن أو يزيد، وإن كان يصح التأريخ بنكبة فلسطين فى العام 1948.

فى خضم الصراع المفتوح على السلطة، والذى حسمته فى الغالب الأعم، المؤسسة العسكرية، تم تدمير الأحزاب السياسية (أحزاب البورجوازية الوطنية بداية، ثم أحزاب اليسار: البعث أساسا، وحركة القوميين العرب ثم التنظيمات الشيوعية التى كانت شبه موحدة، ولو بالموقف، فتمت بعثرتها).

كان بديهيا أن يشهد الصراع على السلطة مواجهات بالسلاح، أحيانا داخل الجيش الواحد، وغالبا مع المعارضات التى وجدت حاضناتها فى حمى الأجواء المأزومة، بل الاشتباكات القائمة فعليا بين الأنظمة العربية والتى اتخذت سياقا خطيرا بتجاوزها السياسة إلى المستوى الدينى (وإن استُخدمت فى توصيفه تعابير طائفية ومذهبية مبعثها الفعلى الموقع فى نظام الحكم وليس الثأر من التاريخ!)..

... والصراع يستدرج «الدول»، وللدول مصالحها المتناقضة. والطائفية غطاء ممتاز لتمويه الصراع ونقله من المستوى السياسى إلى الدين أو الطوائف. وصارت الاتهامات بالطائفية جاهزة. وإذا كان لبنان يحظى باستثناء دائم يتحول إلى رعاية دائمة، فإن دمغ النظام فى سوريا، مثلا، أو فى العراق، بالطائفية أو المذهبية لا يمر مرور الكرام، بل هو يأخذ إلى إيران، ويضيف إلى القائمة اليمن.

عبر هذا الصراع كان لا بد من أن يتركز الهجوم على المؤسسة العسكرية، باعتبارها بيت الحكم وسنده وسيفه.

وسقطت بقوة الأمر الواقع المسلّمة التى تقول بأن «الحكم العسكرى» أو «الحكم بالعسكر» هو الخيار الأوحد أمام الشعوب العربية... بل المؤكد أن الرأى العام العربى بات حاسما فى أن يكون الجيش جيش الدولة، أما حكم الدولة فلنخبها المدنية المؤهلة وعبر الانتخابات واللعبة الديمقراطية..

وإن كان من الضرورى التنبه هنا لدور ما يسمى منظمات المجتمع المدنى (N.G.O) التى تغلغلت وسط خرائب المجتمعات العربية، واقتربت من أن تكون «أحزابا» أو مؤسسات «لاغية للأحزاب»، خصوصا أن تمويلها مؤمن من جهات غربية بينها الاتحاد الاوروبى، وبينها مؤسسات تموه دورها السياسى بشعارات العمل الاجتماعى، لكنها مؤهلة لتعطيل العمل السياسى، وبالتحديد الحزبى منه، وقادرة بإمكاناتها على استقطاب «النخب» خصوصا أنها توسع نطاق اهتماماتها فتشمل الشباب وهواياتهم المختلفة وميلهم الغريزى إلى التصدى لدور ريادى فى خدمة مجتمعاتهم.

•••

على هذا فإننا أمام مشهد فريد فى بابه:

أولا سقط الحكم العسكرى باعتباره البديل الأفضل من حكم الإقطاع، وكذلك من حكم الأحزاب السياسية التى طالما استخدمها لتمويه هويته واستعار شعاراتها فلبسها فوق بزته العسكرية.

وليس من التجنى الحكم بأن الأنظمة العسكرية قد دمرت الحياة السياسية فى البلدان التى حكمتها طويلا، بل أطول مما يجوز ومما تحتمل مجتمعاتها قيد التكوين، فأنهت فيها الوجود الحيوى للأحزاب والنقابات والهيئات الشعبية.

على هذا سيكون صعبا إلى حد يقارب الاستحالة ترميم الحياة السياسية، خصوصا أن العالم بشرقه وغربه قد غادر منذ زمن صيغة الحزب الحاكم، بالمعنى العقائدى، وصار الحكم لائتلافات بين قوى سياسية تمثل أو تحمل تطلعات مجتمعاتها إلى التقدم بالنهوض الاقتصادى..

فى حين أن البديل المتاح فى المشرق العربى هو نوع من الائتلاف بين الطوائف والمذاهب، لإقامة حكم مدنى فى ظاهره، طوائفى فى حقيقته، لا يمكن له أن يمارس السلطة إلا فى ظل حماية دولية ظاهرة أو مضمرة، لا تتعامل مع شعبه باعتباره واحدا، بل تراه وتعتمده كمجموعة من الطوائف والمذاهب تشكل مجموعات من الأقليات غير متناسبة الأحجام، ولكن من حقها جميعا أن تتمثل فى السلطة الجديدة تحت وصاية دولية معلنة.

وما جرى فى العراق، فى ضوء الهجمة الجاهلية بالشعار الإسلامى (داعش) كشف كيف أن الدول أسبغت حمايتها فورا على الأقليات، تاركة الصراع بين الأكثريتين الشيعية والسنية يأخذ مداه على حساب الدولة العتيدة التى ستكون متى تم استيلادها مجددا؟! كونفيدرالية طوائف وعناصر، للأقليات فيها مثل حظ الأكثريات وأكثر، لأنها «محمية»... مع أنها إلى ما قبل حملة «داعش» كانت تعيش آمنة فى ديارها كما عبر التاريخ.

لقد تعامل الغرب الأمريكى والأوروبى مع إقليم كردستان وكأنه الدولة الشرعية فأسبغ عليه حمايته، وتناوب الوزراء والجنرالات الغربيون على زيارته ولقاء مسئوليه، وتزاحموا على تقديم السلاح والمؤن وسائر المساعدات، بل إنهم اعتمدوه كراعٍ ومصدر حماية للأقليات الأخرى (عرقية ودينية)، مكرسين اعتباره «الدولة» (ولو قيد الاستكمال)... فى حين غابت بغداد الغارقة فى الصراع على السلطة بين الشيعة والسنة، ثم داخل الشيعة كما داخل السنة، بينما «الدولة المركزية» تتوارى فى انتظار معجزات يصعب توقع حصولها.

•••

هل دار التاريخ بالأمة العربية دورة كاملة فعادت أو أعيدت بمشرقها أساسا إلى أول الخلق، وبالتحديد إلى ما قبل الدولة، بعدما انفتحت أرضها بالطغيان أو بالهجوم المسلح لقوى آتية من الجاهلية مستظلة الشعار الإسلامى، معززة بسلاح لا تملكه إلا دول، متخطية حدودا كان ممنوعا القفز من فوقها إلى الوحدة، مثلا؟

ثم، كيف توفر لهذه المجاميع من المسلحين بالشعار الإسلامى كل هذه الأكداس من السلاح الحديث؟ وكيف أمكنها تجاوز حدود دول كبرى فى الإقليم (مثل تركيا)، وهل تم ذلك بترتيب معها أو بالخفية عنها وهذا مستحيل، لأن طوابير المقاتلين وقوافل سياراتهم لم تسقط من السماء بل اجتازت مساحات مكشوفة (آلاف الكيلومترات) وهى ترفع راياتها السوداء وهتافات الموت تتردد أصداؤها فى دنيا العرب والمسلمين كافة بل، وتصل إلى أوروبا وأمريكا فتثير الذعر.

ما قيمة الاستقلال وقد انكشف العجز عن حمايته وعن التقدم به إلى الغد الأفضل.

لنعد إلى الاستعمار، إذن.. وهذه المرة بالطلب، بل ربما بالاسترحام، وقديما قيل فى من عجز عن حماية ملكه فى الأندلس:

أعطيت ملكا فلم تحسن سياسته

ومن لا يسوس الملك يخلعه.

على أن الفارق أن الأوطان، لا الدول وحكامها فقط، هى التى تُدمّر من دون أمل فى استعادتها، ولو مشوهة، فى المدى المنظور.

رئيس تحرير جريدة «السفير» اللبنانية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved