غرور ترامب والأيام السوداء فى أمريكا

أكرم السيسى
أكرم السيسى

آخر تحديث: الخميس 10 سبتمبر 2020 - 8:25 م بتوقيت القاهرة

فى حياة كل شعوب ودول العالم تواريخ حزينة ومآسٍ تتأثر بها كلٌّ منها بمفردها، ولكن عندما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية فالوضع يختلف، إخفاقاتها ومصائبها تؤثر على العالم أجمع! ومن أهم التواريخ السوداء فى تاريخ أمريكا فى عصرنا الحديث يومان: الأول يطلق عليه «الخميس الأسود» الموافق 24 أكتوبر 1929 فى نيويورك، والثانى هو «الثلاثاء الأسود» الموافق 11 سبتمبر 2001 فى ولايتى نيويورك وفرجينيا!
تشابهت نتائج أحداث اليومين الأسودين على الرغم من التباعد الزمنى بينهما، شهد يوم الخميس الأسود انهيارا كبيرا فى تعاملات بورصة وول ستريت بنيويورك، وعليه فقد الآلاف من الأمريكيين مدخراتهم، وأفلس أكثر من ثلاثمائة بنك، وطالت البطالة أربعة ملايين مواطن، وكان لهذا الحدث تداعيات اقتصادية مؤلمة على كل دول العالم!
وقد أرجع المحللون هذا الانهيار إلى سببين: الأول، أن إنتاج المصانع الأمريكية كان أكبر من استيعاب الأسواق؛ والثانى، أن الولايات المتحدة قامت بعد الحرب العالمية الأولى بمساعدة الدول الأوروبية فى إعادة بنائها مما أدى إلى استنزاف مواردها الاقتصادية والمالية.
وأما اليوم الأسود الثانى وهو هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001، ضُربت فيه برجا مركز التجارة الدولية الواقعان فى مدينة مانهاتن، والبنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية)، ويُمثل البرجان الحركة المالية والقوة الاقتصادية، ويمثل البنتاجون القوة العسكرية، كان اليوم الأسود الأول خسارة مالية، والثانى خسارة مالية وعسكرية أثرت على هيبة الولايات المتحدة فى العالم أجمع!
ونحن نرى أن السببين اللذين ذكرهما المحللون لأحداث يوم الخميس الأسود 1929 ليسا كافيين، خاصة إذا قارنّا أسباب هذه الكارثة بأسباب ما حدث فى اليوم الأسود الثانى ــ11 سبتمبر 2001 ــ فهناك أسباب أخرى كان يجب على المحللين أن يأخذوها فى الاعتبار حتى يتجنب الأمريكيون تكرار هذه الكارثة.
***
فى الحقيقة، كان لدى الأمريكيين فى 1929 ثقة مطلقة باقتصادهم، وكان لديهم إحساس بأنهم سيصبحون أكثر غنى، وبالتالى أكثر قوة، إلا أن هذا الانهيار المفاجئ أحال حلمهم إلى كابوس مزعج، استمر معهم لمدة ثلاث سنوات حتى وصول الرئيس روزفلت إلى الحكم فى 1932، ومنذ ذلك التاريخ بدأ الاقتصاد الأمريكى يتعافى شيئا فشيئا حتى وصل إلى قمته فى 2001.
ظل الأمريكيون – طوال اثنين وسبعين عاما، ما بين 1929 و2001 ــ يزداد شعورهم مرة ثانية بالغنى والقوة، فأعماهم الغرور عن الرؤية الصحيحة، واعتقدوا أنهم ليسوا فى حاجة لأحد، بل على العكس، اعتقدوا أن العالم كله فى حاجة ماسة إليهم، فاستبد بهم الأمر، وأغمضوا عيونهم عن مشاكل ملحة تحتاج لنصرتهم، فأقاموا ميزانا مختلا لا يحمله شخص معصوب العينين، كما تنص عليه العدالة، ولكن حمله شخص لا يرى إلا بعين واحدة، فاختل الميزان وأصبح له مكيالان، فأوقعهم هذا الغرور مرة ثانية فى كارثة 2001 كما حدث فى كارثة 1929 والتى لم يعوا منها الدرس، هكذا أعاد التاريخ دورته ودروسه، ولكن بشكل أقسى من الأول، لأن غرورهم، فى المرة الثانية، كان مضاعفا – اقتصاديا وعسكريا ــ فجاءت الكارثة لتضرب الرمزين الاقتصادى والعسكرى: مركزى التجارة العالمى والبنتاجون!!
وحديثا، نلاحظ أن الرئيس دونالد ترامب الذى تولى مهامه فى يناير 2017 يتملكه الغرور المطلق منذ اللحظة الأولى لتوليه الحكم، نراه يتصرف بعقلية الكاوبوى (فرض العضلات)، ورجل المال الثرى (التاجر)، يتباهى بقواته العسكرية، ويتفاخر بقدراته الاقتصادية، لا يعبأ بالسياسة فى شيء، نراه يهدد دول الخليج علنا بأنه هو الحامى لنظمهم، وعليهم أن يدفعوا ثمن هذه الحماية! وينسحب من منظمة اليونسكو تضامنا مع إسرائيل فى 2017، وينسحب من الاتفاق النووى مع إيران فى 2018، ويُصرح ــ فى 2018 بعد زيارته لفرنسا للاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لنهاية الحرب العالمية الأولى ــ أنه لولا الولايات المتحدة لتحدث الفرنسيون بالألمانية! ويُخفِّض من عدد قواته فى ألمانيا فى 2020، فى محاولة لابتزاز ألمانيا لدفع تكاليف قواته!
وقد اعتبر الرئيس الفرنسى ماكرون – كما قال فى خطابه بمناسبة الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى ــ تصرفات وأقوال الرئيس ترامب نوعا من الشعبوية المرفوضة، وأنها «خيانة للوطنية»، وقد وجه انتقاده لترامب بقوله: «عندما تقول مصالحنا أولا، ولا يهمنا الآخرون، فإنك تضحى بأغلى شيء فى أى أمة وهو قيمها الأخلاقية»!
وحاليا، تستعد الولايات المتحدة لانتخابات رئاسية جديدة، استعد لها رئيسها الحالى دونالد ترامب منذ اللحظة الأولى لانتخابه كرئيس للبلاد فى ولايته الأولى، لقد عقد العزم على أن تكون «مصلحته الشخصية» فوق كل اعتبار، وفى سبيل تحقيق هدفه اتبع مذهبين فلسفيين، كلاهما يُكمِل الآخر، الأول هو «الميكيافلية» وجوهرها «الغاية تبرر الوسيلة»، وهى فكر فلسفى وسياسى، يُعرف بتوظيف المكر والازدواجية ــ أى الخداع ــ فى «الكفاءة السياسية» أو فى «السلوك العام»، ويُنسب لصاحبه الدبلوماسى الإيطالى نيكولو مكيافيللى (1469ــ1527)، والذى كتب عن هذا المذهب فى واحدٍ من أمهات الكتب الغربية بعنوان «الأمير»؛ ويُستخدم هذا المصطلح، فى علم النفس الحديث، فى وصف الشخصية المزدوجة التى تجمع بين الصفات السلبية الشديدة، والواقعية أو العملية المفرطة.
وهذه الواقعية أو العملية المفرطة هى جوهر المذهب الفلسفى السياسى الثانى الذى يتبعه الرئيس ترامب لتحقيق هدفه، ويُعرف بـ«البراجماتية»، الذى يُعلى فلسفة الذرائع أو «العَمَلانِيَّة»، أى أن يكون الإنسان عمليا فى تحقيق أهدافه، لا يعبأ بأى مبادئ، فهو تقليد فلسفى بدأ فى الولايات المتحدة عام 1870، ويُنسب إلى الفيلسوف الأمريكى تشارلز ساندرز بيرس (1839: 1914)، الذى وصفه فى مقولته البراجماتية: «الفكرة صادقة عندما تكون مفيدة، ومعنى ذلك أن النفع والضرر هما اللذان يحددان الأخذ بفكرة ما أو رفضها».
هذا هو بالضبط حال الرئيس ترامب، وسياسته شاهدة عليه، لقد أيقن أن اللوبى الصهيونى له اليد العليا فى الانتخابات الرئاسية، فقرر أن تكون كل قراراته فى مصلحة إسرائيل، فلم يحترم أى اتفاقيات تعهدت بها بلاده قبل مجيئه، فانتهك أغلب قرارات مجلس الأمن الدولى التى سبق للولايات المتحدة الموافقة عليها، ضاربا بعرض الحائط كل القوانين الدولية، وكل قرارات الأمم المتحدة بشأن حقوق فلسطين والفلسطينيين والعرب عموما، ففى 6 ديسمبر 2017، وقع مرسوما بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس؛ واعترف ــ فى 25 مارس 2019 ــ بأن الجولان السورية المحتلّة جزءٌ من دولة إسرائيل، اعتراف أدانته كل دول العالم، ولم يلقَ ترحيبًا إلا من إسرائيل!؛ هذا بالإضافة لما سبق ذكره من انسحابه من منظمة اليونسكو التى اعترفت بفلسطين عضوا كاملا فيها؛ وانسحابه من الاتفاق النووى مع إيران، وكلها قرارات تدعم مصالح إسرائيل فقط! متوهما أن هذا هو الطريق الوحيد للفوز بالولاية الثانية لرئاسة الولايات المتحدة!
***
كل هذه التصرفات تكشف عن جهل ترامب بالعمل السياسى وبتاريخ بلاده وأزماته، فهو لم يع دروس الماضى، ولم يعرف أن عدم احترام القوانين والمعاهدات سوف يؤدى إلى كوارث جديدة لبلاده، وأن الغرور الذى بلغ به مداه الأقصى سوف يؤدى إلى أيام وشهور سوداء جديدة عليه وعلى بلاده، وبالفعل تأتيه جائحة فيروس كورونا من حيث لا يحتسب، عقابا من السماء على شعبويته، وعلى سلوكه الميكيافلى والبراجماتى – المذهبان غير العابئين بالمبادئ الأخلاقية والإنسانية ــ فتدمر كل أحلامه ومخططاته.
وتشهد الولايات المتحدة، منذ نهاية يناير 2020 وحتى نهاية أغسطس، تصاعدا كبيرا فى حالات الإصابة والوفيات بسبب الفيروس، فتُحقق بلاده أعلى المستويات على مستوى العالم، ويحقق الاقتصاد الأمريكى أسوأ تراجع منذ عام 2008، وترتفع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، وينكشف قصور الخدمات الصحية فى أقوى وأغنى دولة فى العالم، وينهار ترامب، فيُعاود مكيافيليته وبراجماتيته باللجوء للدين ــ الذى يحُثُنا على العدل والصدق واحترام التعهدات والمواثيق والتواضع ــ فيرفع الإنجيل أمام كنيسة القديس يوحنا فى واشنطن العاصمة، بينما حين سُئِل فى مقابلة تلفزيونية عن أحبّ آية فى الإنجيل إلى قلبه، تلعثم، ولم يستطع الإجابة!
ويا ليت الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يعرف أن فى الإنجيل الذى رفعه أمام الكنيسة آية تقول: «اللهَ يُقَاوِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً» (بطرس الأولى 5: 5؛ أمثال 3: 34).

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved