«12 رجلًا غاضبًا».. قراءة جديدة (2ــ2)

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 10 سبتمبر 2022 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

ماذا عن الأفكار التى يعبِّر عنها فيلم «12 رجلًا غاضبًا»؟
لا يمكن الحديث عن الأفكار، قبل أن نعطى فكرة عامة عن نظام المحلفين فى المحاكم الأمريكية. هذا النظام يقوم على اختيار مواطنين عاديين، لكى يحكموا على المتهمين، بعد أن يدير القاضى جوانب الدعوى، بين أدلة المدعى العام، ودفاع المتهم، وهؤلاء المحلفون لم يدرسوا القانون، ولكنهم شخصيات عامة، حسنو السمعة والسلوك، يُختارون وفق شروط صارمة، لأداء هذه المهمة، ويمنحون أموالًا، نظير تفرغهم للقضية بعيدًا عن عملهم، وهم لا يعرفون بعضهم، كما يبدو فى الفيلم، وفى القضايا التى تكون عقوبتها الإعدام، لابد من تصويت المحلفين بالإجماع بأن المتهم مذنب، فإذا تساوت الأصوات بين «مذنب»، و«غير مذنب»، يُعاد إسناد القضية إلى هيئة محلفين أخرى.
الفيلم استفاد من كل هذه العناصر لبناء دراما قوية، فاعتراض عضو واحد من هيئة المحلفين هو ديفيز على إدانة المتهم، يعيد القضية إلى خانة الصفر، وتأرجح التصويت، ثم تعادله، يهدد بأن تُوكل القضية إلى هيئة أخرى للمحلفين، ووقوف عضو واحد ضد الذين قالوا إن المتهم غير مذنب، يعيد القضية أيضًا إلى خانة الصفر.
وهكذا تستغل تفصيلات نظام المحلفين، لدفع صراع الأفكار إلى الذروة، ولتحقيق التشويق، ولتمرير أفكار كثيرة مهمة، مثل موقف الفيلم الضمنى من عقوبة الإعدام، إنه لا يراها عقوبة هينة، ولا يرى من المنطق أن يحدد فردا أو عدة أفراد مصير إنسان، حتى مع وجود شهود وأدلة ودفاع للمتهم، والفيلم بأكمله تفكيك وتشكيك كامل فى حكم إعدام، بما يؤدى إلى تحويل المذنب إلى غير مذنب، بل يمكن القول إن معنى الحكاية كلها هو أن براءة قاتل، ولو كان مذنبًا، أفضل من إعدام شخص غير مذنب، لا يمكن إعادته للحياة، لو اكتشفنا براءته فيما بعد.
وهناك فكرة الفرد فى مقابل الجماعة، فالعدد ليس معيار الصواب، ولكن المعيار هو المنطق والحجة، وفرد واحد هو ديفيد، وقف بمفرده أمام الجميع، ونجح فى إقناعهم فردًا فردًا.
الفرد محور أساسى فى المجتمع الأمريكى، وفى الفكرة الأمريكية عمومًا، التى تحتفى بالفردية، وبالقدرات الاستثنائية، وترسخ السينما هذه الفكرة فى أفلام كثيرة، وبتنويعاتٍ لا حصر لها.
وهناك فكرة أمريكية أخرى مهمة: نظام المحلفين هو فى حقيقته ترجمة لمعنى الديمقراطية، فبدلًا من قاضٍ أو ثلاثة من القضاة، يتداول القضية 12 شخصًا، وسيثبت الفيلم أن حواراتهم أفضل من إجراءات القضاة والمحامين، وأكثر دقة وتفصيلًا، رغم أنها صادرة من شخصيات عادية.
الفيلم بهذا المعنى دفاع عن الديمقراطية الأمريكية، فى تجلياتها القانونية والقضائية، وسنسمع فى الحوار هذا المعنى بوضوح. الأصل فى هذا المجتمع هو الحوار، والحاسة النقدية، التى تصل إلى قاعة المحكمة نفسها، والقيمة التى صنعت أمريكا هى الجدل والنقد، وليست أفكار الرضوخ والتسليم، ويتكرر دائما تعبير «الشك المعقول»، أى الشك القائم على حيثيات، والذى يستهدف الوصول للحقيقة، وليس تغييبها، الشك من أجل يقين أفضل، وهذا المعنى محور التفكير الغربى بأكمله، والفيلم يقدم تجلياته «البراجماتية»، فى إنقاذ روح متهم يمكن أن يعدم.
لكن أهم أفكار الفيلم على الإطلاق، وأذكاها أيضًا، أن المواطن الأمريكى العادى، ممثلًا فى هؤلاء المحلّفين، الذين ينتصرون لما يرونه حقًّا، رغم نقاط ضعفهم، واختلاف مهنهم، وطباعهم، وشخصياتهم، هو العمود الأساسى للمجتمع، وهو الذى يعيد التوازن إلى ميزان العدالة، وهو الذى يراقب كل شيء، بما فى ذلك ما يجرى فى دوائر القضاء.
أمريكا هى المؤسسات، ولكنها أيضًا الإنسان العادى، اليقظ، والمتشكك، الذى يؤمن بالحوار، حتى لو كان الطرف الآخر على النقيض منه، الإنسان الذى يتغلب على انحيازاته، أمام قوة الحجة، والإنسان الذى تتحول لا مبالاته، إلى موقف واتجاه، بل وعليه أن يبرر دومًا موقفه ورأيه، ولا يكون مجرد «إمعة»، هذا المعنى يقوله صراحة أحد المحلفين لزميله، الذى اتخد موقفًا جيدًا بدون اقتناع، ولكن لمجرد أن ينتهى الجدل. حيثيات الرأى بأهمية الرأى نفسه.
هذه مؤسسة تركت ثغرات واسعة فى سؤال الشهود، وهذا مدعٍ عام لم يحسن ضبط الأدلة، وهذا محامٍ لم يحسن الدفاع عن موكله، وهذا متهم صغير السن فشل فى الدفاع عن براءته بسبب هول الموقف، ولكن هيئة المحلفين التى تمثل المجتمع والمواطنين العاديين بشكلٍ مباشر، ستملأ بجدارة هذا الفراغ الفادح، وسترسخ فكرة تحقيق العدالة عبر ديمقراطية الحوار، وستثبت أن 12 رجلًا عاديًّا يتحاورون بنزاهة، أفضل من رأى اثنين أو ثلاثة، حتى لو كان الفردان أو الثلاثة من دارسى القانون.
يتعمد الفيلم تجهيل أسماء المحلفين، باستثناء رجلين: «ديفيز»، واسم رجل عجوز حكيم وذكى سانده، هذه تحية خاصة للرجلين، ولكن المعنى الأهم لإغفال الأسماء هو تعبير الشخصيات عن فكرة «المواطن الأمريكى عمومًا»، وخاصة أنهم يمثلون شرائح ومهنًا مختلفة.
هذا إذن أحد أكثر الأفلام الهوليوودية أمريكيةً، بمعنى أنه يدافع عن كل القيم التى صنعت أمريكا، والتى أعلنها الآباء المؤسسون، وبالمناسبة، فإن نظام المحلفين يعود إلى العام 1765، وأوصى به الآباء المؤسسون، والمحلف يؤدى واجبًا وطنيًّا، بل لعل اختيار مواطن ليكون محلّفًا، دليل على أنه مواطن فوق مستوى الشبهات.
«12 رجلًا غاضبًا» هو فيلم عن أمريكا، وليس عن العدالة فقط، عن الحوار، والجدل الخلاق، وعن المواطن الفرد العادى، أساس المجتمع كله، والذى يتدخل ويناقش، ليعدل الموازين، ويحدد المصائر، حتى إذا فشلت المؤسسات فى أداء دورها.
الفيلم وضع المجتمع الأمريكى فى حجرة صغيرة، بكل حيويته وصخبه وطبقاته وجرائمه، وبكل الأفكار الذى صنعته. إنه أهم وأخطر بكثير من قضية شاب مهدد بالإعدام فى محكمةٍ ما.
قضية الفيلم هى الإنسان الأمريكى ناقدًا، ومتهمًا، ومحلّفًا، ومدعيًا، ومحاميًا، ومؤثرًا فى كل المصائر والقرارات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved