أنين الساكسفون

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 10 سبتمبر 2022 - 10:21 م بتوقيت القاهرة

يتحرك بخفة راقص باليه على أنغام موسيقى الفالس الثانى للمؤلف الروسى دميترى شوستاكوفيتش. صارت هذه المقطوعة تتردد فى أذنيه كثيرا منذ بداية عمله قبل نحو ثلاث سنوات من الآن فى قسم العناية المركزة بأحد مستشفيات العزل. شىء ما يجذبه إليها، يشعر بتأوهات الساكسفون فى بدايتها مثلما يشعر بأنين المرضى ليلا، فغالبا يختار الورديات المسائية لأنه لا يحب الاستيقاظ مبكرا. انطلق سريعا من أمام المصعد متجها صوب غرفة المريض الذى استقبله منذ ساعات قليلة، فقد غالبت هذا الأخير نوبة سعال حاول كبتها فلم يوفق، وانفجر سعاله حادا خشنا متواصلا.
استفاق الرجل من النوم مذعورا. حملق فى أرجاء الغرفة التى يضيئها نور أصفر ضعيف منبعث من مصباح كهربائى صغير مثبت على الطاولة بجوار السرير. غابت عن فكره أسباب مجيئه إلى هذا المكان أو ربما يرفض فى أعماقه إصابته بالكورونا. فجأة لم يجد فردا من أهله وأصابه الهلع... تعود إبراهيم على هذا المشهد بمرور الوقت. يحفظ عن غيب الأسئلة التى ستتوالى على لسان المريض حول شخصية هؤلاء المجهولين المحيطين به الذين يزيد القناع الواقى من غرابتهم. لا يرى وجوههم ويصعب عليه تمييز الابتسامة من تحت الكمامة، وفى حال وجود نظارة طبية تتعطل لغة العيون أيضا أو يصيبها بعض التشوش.
• • •
عمل إبراهيم عشر سنوات فى أقسام العناية المركزة بالمشفى قبل أن تطأ قدماه العزل ويصبح من أعضائه الأساسيين، وبالتالى فهو يعرف جيدا شعور المرضى وهم مثبتون على الأجهزة الطبية أو حين يزول أثر المخدر والمسكنات. بعضهم سيتذكره بعد خروجه من الأزمة الصحية، والبعض سيتعرف عليه من خلال رواية الأقرباء لأنه لا يعى تفاصيل ما حدث خلال إقامته بالمستشفى، وآخرون لن يحالفهم الحظ وسيقرأ على روحهم الفاتحة. فعل هذا كثيرا، لكن المؤلم فى الآونة الأخيرة كانت مفارقتهم الحياة فى العزل دون وجود ذويهم.
ظروف دخولهم إلى هنا بالفيروس اللعين بها قسوة فى حد ذاتها، فالموضوع قد يطول أمده، خاصة خلال الموجات الأولى من الجائحة، وإصابات الرئة والقلب تجعل المرضى فى منتهى الضعف والوهن وتحتاج عناية فائقة ومجهودا ضاريا، هذا بالإضافة إلى الحالة النفسية السيئة وفزع الأهل وأحيانا عدوانيتهم، فبالنسبة لهم هو ظرف طارئ ومريع أما بالنسبة للطواقم الطبية ما يحدث هو جزء من حياتهم اليومية، من الروتين، وبالتالى يكون هناك فى بعض الأحيان تفاوت فى مستوى الأداء وسرعة الاستجابة أو فلنقل تباينا فى ردود الفعل.
يفهم إبراهيم وباقى فريق التمريض أنهم همزة الوصل مع العالم الخارجى، فى ظل الزيارات الممنوعة والمكالمات الهاتفية المقننة، وأن عليهم محاولة بث الطمأنينة فى القلوب، ومساعدة كل هؤلاء على تقبل المجهول الذى يحاصرهم... ربما هو سر تعلقه بالفالس الثانى لدميترى شوستاكوفيتش (1906ــ1975)، فهو نفسه يدور فى حلقات مثل رقصة الفالس، يلف ويلف من حالة إلى حالة بثوبه الطبى الأزرق الذى يبدله أحيانا بلباس أبيض مزود بسحاب أو «أوفارول» طبى خاص بقسم العزل.. الفالس بالنسبة لإبراهيم هو رقصة الحياة، تدور ويدور معها فى حركة مستمرة. مقاومة وانسيابية، شد وجذب، خطوات يقوم بها طرفان.
• • •
بشكل غير مقصود تنعكس الموسيقى التى يسمعها فى رأسه على حركته وأدائه. يحاول أن يحافظ على البعد الإنسانى فى التعاطى مع أشخاص يتم التعامل معهم منذ تسجيل الدخول بوصفهم «عُهدة». يتفحص جسم المريض بدقة قبل الاستلام ليحدد ما به من إصابات سابقة، يكتبها فى الأوراق الرسمية ويقر الأهل بوجودها حتى لا يتهمهم أحد بالتسبب فيها. يحرص حين يكون المريض واعيا أن يشرح له خطوات العلاج، فمن حقه أن يعرف، ألا يتم تشييئه... ومن حقه ألا يشعر بخوف المحيطين منه أو عليه، فكثيرا ما لمح رعبا طاغيا فى عينى امرأة مفتوحتين إلى أقصاهما أو استمع إلى صوت خافت متقطع يقول: «من أنت؟ وماذا تريد؟»، ثم تبدأ وصلة من الانتحاب.
يرمق السيدة بنظرات حانية وهو يقلب جسدها الممدود على الفراش، يـتأمل لحم صدرها الأبيض المترهل، خلال تثبيت المزيد من الأسلاك لإجراء المزيد من الفحوصات، وتتصاعد فى رأسه مجددا موسيقى الفالس الثانى وقد انتقل من نحيب الساكسفون إلى مرحلة الوتريات، ومن بعدها تدخل آلة الترومبون... تحتاج هذه الأخيرة إلى قوة فى النفخ غير متوافرة لدى المتواجدين فى العزل، فالهواء يملأ الرئتين بالكاد. الحس الدرامى العالى فى موسيقى دميترى شوستاكوفيتش يتماشى مع الموقف ويلائم الظروف التى نعيشها. أسلوبه به التباس ومواربة متعمدة لجأ إليهما للهروب من التضييق وشمولية ستالين، وموسيقاه تعبر عن معاناة الحروب وحالة التعساء جراء تعرضهم للقمع: رقصات حزينة ومارشات غير مألوفة ونغمات مترددة، ففى أعماله المتنوعة يختلط الجد بالهزل، ما بين سيمفونيات وأنواع من الكونشيرتو وموسيقى أفلام وأخرى للباليه والأوبرا، معظمها يحمل أنينا خفيا وأبعادا أخرى فى ثناياها.
• • •
هذا الالتباس المتعمد هو على الأغلب ما أثار حفيظة ستالين، رأى فيه فوضى لا تليق بالواقعية الاشتراكية السائدة، أغضبه ذلك وصار شوستاكوفيتش «عدوا للشعب» فى كل التصنيفات الرسمية، ثم تظاهر المؤلف الموسيقى بولائه للحزب الشيوعى السوفيتى ليحظى بالرضا، ونال أرقى الأوسمة والجوائز واضطر لقبول العديد من الأعمال المطلوبة بالأمر المباشر خاصة خلال الثلاثينيات والأربعينيات، قبل أن تنصب عليه اللعنات وينضم مجددا إلى قائمة المغضوب عليهم. اختفت بعض أعماله، ومنها هذا الفالس، خلال الحرب العالمية الثانية، وكان الطلبة فى المدارس يُلقنون المعلومات حول تأثيره السيئ فى مجال الموسيقى، كما حُرِم من التدريس فى الكونسرفتوار. هو أيضا حياته تشبه دوران حركة الفالس...
يتأمل إبراهيم كل هذه التفاصيل وهو جالس بجانب المريض فى وردية الليل. منذ أن اكتشف هذه المقطوعة، مثل العديد من أبناء جيله من خلال فيلم المخرج ستانلى كوبريك الشهير «عيون مغلقة على اتساعها» فى التسعينيات، وهو متيم بالموسيقى ومؤلفها. الفيلم كان يروى مغامرة طبيب ويدور فى عوالم المرضى والسياسة والماسونية، لكن الفالس الذى يرجع تاريخه لأواخر الثلاثينيات يحكى بالنسبة لإبراهيم قصة كل يوم، فى زمن قلبه حجر صوان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved