من التحرير إلى مانهاتن وبالعكس

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الإثنين 10 أكتوبر 2011 - 9:05 ص بتوقيت القاهرة

احتل المتظاهرون شوارع منطقة المصارف وسوق المال فى حى مانهاتان وهم يرددون الهتاف، «هنا القاهرة، هنا تونس، هنا التغيير والشمس المشرقة».

 

بالفعل بدت للمتابع من بعيد أوجه التشابه بين ربيع مصر وربيع أمريكا عجيبة ومثيرة، رغم ما يفرق بينهما من مسافات شاسعة وثقافات متباينة، وبدت أوجه الاختلاف أيضا غريبة. وسواء تشابها أم اختلفا يظل فى حكم المؤكد أن إحداهما لم تحظ حتى الآن باجماع يعترف لها بصفة الثورة.

 

أولا: مازالت كل منهما فى اعتبار الكثيرين انتفاضة شعبية أو إرهاصات ثورية أو حركة احتجاجية. وكان أسوأ الأوصاف الوصف الذى وصفت به الكاتبة الأمريكية اليمينية آن كولتير مظاهرات مانهاتن، وصفتها بأنها لا تزيد على كونها انتفاضة غوغائية، باعتبار أن أهدافها غير متسقة وأنها أشبه ما تكون بانتفاضة الباستيل خلال الثورة الفرنسية. وصفها آخرون وبعضهم من عمالقة تيار اليمين المحافظ مثل جلين بيك بأنها أعمال يقوم بها فوضويون ومتسكعون أو مرتبطة بأجندات خارجية. ونعتوا المشاركين فيها بأنهم عاطلون عن العمل لم يجدوا ما يشغلهم فخرجوا إلى الشوارع يقضون الوقت ويتسلون، وإن كان عدد منهم لا يريد أن يعمل بحجة أنه يرفض العمل لحساب «رجال أعمال من مصاصى دماء الفقراء الكادحين». أغلبنا يسمع فى مصر هذه الأيام أصواتا تنقلها لنا قنوات فضائية من نوع صار مألوفا ومنفرا ومخيبا للأمل تردد صفات مماثلة لتلك التى تروج لها عناصر يمينية متعصبة فى الولايات المتحدة، وتزداد هذه الأصوات المصرية علوا مع صحوة المناهضين للثورة والتغيير واستمرار تعطل بوصلة الحكم وصعوبة توصل «عشائر الثورة» إلى درجة متحضرة من التنسيق بينها.

 

ثانيا: تشابها أيضا فى آن أحد عناصر نشوبهما كان الاعتقاد لدى قطاعات واسعة من الشعب بأن النظام الحاكم فضل إنقاذ بنوك ومصارف وشركات عقارية كانت على وشك الإفلاس بدلا من أن يصلح الاقتصاد ويحارب الفساد لتحسين أحوال الغالبية العظمى من المواطنين. وقع هذا التفضيل فى الولايات المتحدة على يد الرئيس بوش واستكمل سياساته الرئيس أوباما فور توليه الحكم. ويقال الآن إنه كان بما فعل يرد الجميل لقطاع المال والأعمال الذى ساعده مساعدة كبيرة بالمال وفضله على منافسه الجمهورى المحافظ. إذ بلغ دعم القطاع المالى للمرشح الديموقراطى أوباما ما يزيد على 7.9 مليون دولار مقابل 4.2 مليون دعم بها المنافس اليمينى الممثل للحزب الجمهورى.

 

ثالثا: وتشابها فى موقف الميديا منهما. يقول كيث أوبرمان الإذاعى المعروف فى التليفزيون الأمريكى إن تعتيما إعلاميا أحاط بكل أنشطة الجماهير التى خرجت لتشترك فى حملة «احتلوا وول ستريت»، ولم ينفرط هذا التعتيم إلا عندما اشتبكت الشرطة مع المتظاهرين الذين تعمدوا تعطيل حركة المرور فى أحد أهم جسور نيويورك. يذكر ولا شك شباب الثورة فى مصر كيف تعامل الإعلام الحكومى المسيطر على الميديا المصرية مع حركتهم فى أيامها الأولى، وكيف تبدل الحال تماما عندما وقع الاشتباك الأول برجال الشرطة وسقط ضحايا. يقول معلقون آخرون إن شعار «سلمية.. سلمية» الذى ألهم منظمى حركة احتلال وول ستريت وحركات أخرى فى مدريد ولشبونة ولندن، ويلهم الآن سكان مدن أخرى فى الولايات المتحدة، هو نفسه السبب فى تقصير الميديا عن تغطية الثورات فى أيامها الأولى.

 

رابعا: تشابهت الثورتان فى موقف البيروقراطية الحكومية منهما، ففى كل الحالات لم تخف البيروقراطيات فى دول الثورات جميعا شكوكها فى أن الثورات لن تستمر طويلا لأنها لم تستعد بالكفاءات اللازمة والأساليب الضرورية لإدارة شئون البلاد، أو حتى شئون «الثورات» وعملت البيروقراطية، ومازالت تعمل، استنادا إلى هذا الاقتناع. بل إنها ذهبت إلى أبعد من مجرد انتظار الفشل حين بدأت تعمل متكاتفة مع القوى المناهضة للثورات، أنصار النظام القديم فى حالة الربيع العربى، وتنظيمات اليمين المحافظ فى حالة ثورات نيويورك وشيكاغو ولوس أنجلوس وبوسطون ومدن أوروبية إلى الجانب الآخر من الأطلسى.

 

خامسا: تشابهتا حين اختارت، كل على حدة، أن لا تلتصق باليسار فكرا أو تنظيما، ويقول جون جابار فى مقال بصحيفة فاينانشيال تايمز إن الثورات أحسنت صنعا لأنها لو التصقت لجاءت نهايتها أسرع، أو لما حققت انجازا على أى الأصعدة ولما استجابت الحكومات لمطلب من مطالبها. وأعتقد أن ملاحظة جون جابار ذكية وأن نشر فاينانشيال تايمز بالذات لهذه الملاحظة له مغزاه وإن كان لا يعنى بأى حال أننى أوافق على أن اختيار عدم الالتصاق باليسار وقع بناء على تخطيط أو دراسة بقدر ما يكون قد أتى مثلما أتى اختيار ثورات الربيع العربى الابتعاد عن القضايا الحساسة فى السياسات الخارجية على الأقل خلال فترة الانطلاق والتثبيت. وقد لاحظنا فعلا أن تيارات يسارية لم تبارك على الفور أو بالحماسة المتوقعة الثورات العربية وثورة مانهاتن وإن فعلت بعد حين، ومازالت تصدر عن بعضها انتقادات منها عدم وجود أهداف محددة أو شكل محدد. ومايزال الجدل دائرا حول ميل هذه الثورات جميعا إلى استخدام الشوارع والميادين والحدائق (مثل حديقة زوكوتى فى نيويورك)، كساحة لاتخاذ القرارات، فمن قائل إنها تعكس طبيعة العصور الطبيعة الخاصة لهذه الثورات التى تتخذ قراراتها عبر الوسائل الإلكترونية وتحملها معها جاهزة إلى الساحة، ومن قائل إنه من غير المعقول أن نقلد فى القاهرة وصنعاء وحمص وحماة ونيويورك، بل وفى أثينا المعاصرة، أثينا الإغريقية حين كانت القرارات تتخذ جماهيريا وفى الميادين العامة.

 

●●●

 

تشابهت الثورات أو الانتفاضات فى نواحى عديدة، ولكنها تشابهت أكثر شىء فى ردود فعل الطبقة السياسية الحاكمة، سواء تلك التى فقدت بعض عناصرها كنتيجة مباشرة لانطلاق الثورة، أو تلك التى تحاول الآن جاهدة وبحماسة مفاجئة تفادى ذلك. ففى كل الأحوال عمدت الطبقة الحاكمة، وأكثرها لم يسقط تماما أو لم يسقط غالبا، إلى استخدام وسائل متباينة لترويض الاحتجاجات، منها الاعتراف السريع بأخطاء جسام. وهو ما فعلته الطبقة الحاكمة الأمريكية، إذ خرج محافظ البنك المركزى الأمريكى ليعترف بحجم الفشل الذى أصاب الاقتصاد الأمريكى، وبالمثل صرح الرئيس أوباما تصريحات متعاقبة عن هول الأزمة الاقتصادية الأمريكية وبشاعتها وإن حاول إلقاء بعض المسئولية على الأوروبيين، وسارع مجلس الشيوخ بإعلان استعداده الموافقة على زيادة الضرائب على أصحاب الدخول التى تتجاوز المليون دولار.

 

 تدرك الطبقات السياسية أن مقتل أى ثورة يكمن فى إجبار «الثوار» على إصدار قرارات هم غير مؤهلين لاتخاذها، وفى تسريع عملية «تسييس» الثوار بحيث يختصر وقت الثورة ويبدأ وقت التأهل لتولى مناصب السياسة، والاكثار من استدراج أو حث مؤسسات وشخصيات من خارج الثورة لتنصح الثوار وترشدهم أو لتمزق صفوفهم وتكشف للرأى العام عن براءتهم وبساطتهم. ما أغربها صورة.. صورة ثوار تستشيرهم الطبقة الحاكمة فى أدق مسائل السياسة وإدارة الدولة والقانون والدستور وتأخذ رأيهم فى شئون بعضها بعيد.. بل بعيد جدا عن أحلام شعب وتطلعات ملايين العاطلين عن العمل ومئات الألوف من عائلات لم تحقق لها الثورة آمالها فى الكرامة والعدالة الاجتماعية. تفرغ ثوار عديدون للإدارة والقرار فتغيرت الصورة التى التقطت للثورة فى أيامها الأولى، لم تعد الصورة، كما كانت، واضحة وبسيطة ومعبرة. يقول ثوار مانهاتن إنهم لن يتخلوا عن ممارسة الضغط حتى تستجيب الطبقة الحاكمة إلى مطالب الكادحين ويتوقف نفوذ رجال المال والأعمال فى دوائر الحكم وتمتنع الحكومة عن لعب دور وكالة التأمين على الشركات والأغنياء والاقوياء، وتجاهل صغار المستثمرين والفقراء والضعفاء.

 

●●●

 

اختلف مع بعض ما يطرحه الكاتب الصحفى توماس فريدمان من أفكار وآراء، ولكننى توقفت طويلا وبإعجاب أمام فقرة فى مقال نشرته له أخيرا صحيفة نيويورك تايمز تعليقا على الحملة الجماهيرية لاحتلال حى المال والأعمال، يقول فريدمان.. «اقرأ الصحف فأقتنع بأننا.. نحن الشعب، نعيش فى أزمة اقتصادية وننشغل بأمورها بينما أنتم السياسيون تستعدون للانتخابات وتنشغلون بأمورها. إنه أمر مخيف لأنه لا توجد صلة بين الانشغالين. انشغال الشعب وانشغال الطبقة السياسية».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved