«الجوكر».. أفكار وملاحظات

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 10 أكتوبر 2019 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

أتمنى ألا يصرف الأداء الفذ للمشخصاتى خواكين فوينيكس اهتمام المتفرج عن الأفكار والثنائيات التى يتناولها فيلم «الجوكر» (أخرجه واشترك فى كتابته تود فيليبس)، فالأمر فى رأيى يتجاوز تفسير سلوك شخصية الجوكر التى يطاردها باتمان فى أفلامه، إلى تأمل علاقات أكثر تعقيدا، وبذلك يمكن أن نحدد وزن السيناريو بين الاتساق والاضطراب.
الثنائية الأولى التى يتناولها الفيلم هى «العنف والسخرية»، وكأنهما صفتان متلازمتان فى قناع واحد، وهذا سبب الابتسامة القسرية المتكررة، والضحكة المفتعلة التى تميز الجوكر.. يبدو الضحك مصنوعا فى برامج تليفزيونية أو فى عروض ستاند أب، وتبدو السخرية نفسها عملا عنيفا يستوجب القتل انتقاما من مذيع التليفزيون، والعنف تجاه الجوكر تسبقه دوما سخرية مريرة منه، وهو نفسه سيمارس العنف تحت قناع مهرج يفترض أن يسعد الناس، هنا نظرة قاسية للطبيعة الإنسانية؛ حيث تكمن وراء ابتسامة المهرج مأساة، وتكمن وراء الضحكات قسوة لا حد لها.
الثنائية الثانية هى «الفرد والمدينة»، ومن هذه الزاوية تبدو مدينة جوثام الخيالية كئيبة ومنفرة، وليست مصادفة أبدا أن تبدأ الأحداث بإضراب يؤدى إلى ملء طرقات المدينة حرفيا بالقمامة والنفايات، أما الفرد، وهو آرثر الذى سيصبح الجوكر، فهو مهمش وغريب، شكلا ومضمونا، لا يريد فقط سوى أن يعيش فى المدينة، ولكنها لا تتركه فى حاله، بل ترفع الدعم عن خدمة علاجه، المدينة أيضا واقعية لدرجة أن أولى جرائم الجوكر كانت ضد ثلاثة يعملون فى وول ستريت، إنها مدينة معروفة وملموسة، وليست مدينة تطير فيها الكائنات فى الهواء، فيلم «الجوكر» من هذه الزاوية عن فرد لم يتحمل قسوة المدينة وأهلها.
الثنائية الثالثة هى «التمرد والجنون»، وفى رأيى فإن معالجة الفيلم لهذه الثنائية مضطربة ومشوشة، وظل هذا التشوش مستمرا حتى المشاهد الأخيرة، السؤال ببساطة هو: هل «آرثر/ الجوكر» رمز للتمرد أم أنه عنوان للجنون والمرض العقلى؟
الفيلم أراده الاثنين معا، فجرائمه الشخصية تثير تعاطف كل المهمشين، والجوكر يتحول إلى مئات من أقنعة الجوكر فى مظاهرات النهاية، وآرثر مهمش أيضا، لدرجة أنه يشك فى أنه موجود من الأساس، أين المشكلة إذن؟ المشكلة أن الجنون مرض، أما التمرد فهو موقف، المريض غير مسئول عن تصرفاته، أما المتمرد فهو واع ومسئول ويعرف ما يريد، وهذا الاضطراب فى رسم الشخصية، جعل من الصعب الفصل بين جرائم الجوكر بسبب مرضه، أو جرائمه كموقف تمرد وعنف مضاد، ولذلك لم أصدق أبدا كلمات الجوكر الحكيمة فى مشهد النهاية، والسيناريو نفسه حائر، فبينما يصبح الجوكر رمزا لتمرد المدينة بأكملها، ويعى هو ذلك فى مظاهرة، يعود فى مشهد تال إلى حجرة المستشفى، هنا خلل فادح انعكس على كل شىء، فاختلط وعى الشخصية بحالة جنونها فى أداء فوينكس أيضا، وهى مشكلة كتابة بالأساس كما شرحت.
لكن يظل أبرز ما قدمه الفيلم التأكيد على أن آرثر فى الفيلم ليس ممثلا للشر، ولكنه يكاد يصبح ضحية له، وضحية للمدينة وأهلها، وهو يهاجم دفاعا عن نفسه فى مواجهة العنف والسخرية، بل أراد الفيلم أن يجعله مطهرا للمدينة «نفاياتها»، وممن أهانوه أو غدروا به، لا فرق فى ذلك بين زميل العمل، والمذيع الساخر، ورجال المال، والعمدة الذى يلعب لعبة السياسة، هذا الخلط بين العام والخاص، وبين الجنون والوعى بمن يفسدون المدينة، هو أيضا ثمرة جعل آرثر متمردا ومجنونا فى نفس الوقت، وبينما تنمو أزمة بطل فيلم «سائق التاكسى» لسكورسيزى تدريجيا وصولا إلى مرحلة الانفجار، فإن «الجوكر» يبدأ وبطلنا يعالج فعلا من مرضه العقلى، مما يجعل سلوكه فى خانة الاضطراب، وللمفارقة فإن روبرت دى نيرو الذى لعب دور السائق العنيف فى فيلم «سائق التاكسى»، يؤدى فى «الجوكر» دور موراى الساخر الذى يسلى المدينة، ويستهدفه آرثر.
هى إذن ثورة فوضوية أشعلها شخص مريض عقليا، منعوا عنه الدواء، بعد أن فصلوه من العمل وسخروا منه، ومع ذلك أراده المهمشون رمزا لعنفهم المضاد، هذا حقا أقل بكثير جدا مما كانت تعدنا به أفكار الفيلم اللامعة، وإن كانت أفكارا مثيرة للجدل والنقاش، خاصة مع أداء فوينكس الذى لا ينسى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved