توفيق الحكيم وعودة الوعى!

رجائي عطية
رجائي عطية

آخر تحديث: الخميس 10 أكتوبر 2019 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

هناك كثير يجب أن يُقال فيما لابس ما عُرف بمذبحة القضاء، لولا أننى لا أريد أن أخرج فى هذه السطور عما أبداه الأستاذ توفيق الحكيم لعودة الوعى، وقد أعود إلى هذه القارعة فى موضع آخر لأزيدها تفصيلا وبيانًا.
وفى الكتاب الموازى: «وثائق فى طريق عودة الوعى»، الذى صدر للأستاذ توفيق بعد عام من صدور كتابه: «عودة الوعى»، يكشف عن واقعة خطيرة مدعومة بصور ضوئية للتحقيقات والوثائق، يقدم لها بأن التاريخ ذاكرة الأمة، وأن من يفقد ذاكرته يفقد وعيه.
بداية الحكاية أن الأستاذ توفيق الحكيم قَدَّر أن قرار الرئيس عبدالناصر بتعيين الأستاذ محمد حسنين هيكل وزيرًا للإعلام، يضر بالأهرام ودوره حتى ولو بقى رئيسًا لتحريره إلى جانب الوزارة، فى الوقت الذى يمكن على الأقل ــ أن يحل سواه فى تولى الحقيبة الوزارية. فلا يتفق مجال القلم مع كرسى السلطة، وأراد الأستاذ الحكيم ــ كما أبدى فى كتابه الموازى ــ أن يتخذ من هذا الموضوع الذى أزمع كتابة رسالة خطية فيه إلى الرئيس ــ وسيلة لإيضاح أن البلاد وهى تعانى أزمة نفسية شديدة بعد هزيمة 1967، أصبحت لا تصدق الجهات الحكومية، لأن الأزمة صارت أزمة ثقة، وأن الأقلام الحرة المستقلة هى وحدها التى تستطيع أن تعالج نفسية الشعب.
كتب الأستاذ توفيق الحكيم رسالة حرص على أن تكون خطية حتى لا تتناقل، وحرص على إرسالها للرئيس مع السيد حاتم صادق زوج ابنته الكبرى، ولتسلم إلى السيد الرئيس يدًا بيد، لم يخرج فيها الأستاذ الحكيم عن حدود الأدب واللياقة، ولا عن الاحترام الواجب لرئيس الجمهورية، وأبدى فيها أن جريدة الأهرام باستقلالها تؤدى دورًا بالغ الأهمية يمكن أن يشيع فى النفوس الثقة والأمل، وتنوير الرأى العام دون الالتجاء ــ كتعبيره ــ إلى الشعارات المفتعلة التى مجها من الأجهزة الرسمية، وأنه ربما كان لها عذرها، ولكن القضية أزمة ثقة حقيقية وحالة نفسية يمر بها الشعب من الحيرة والقلق وبلبلة الفكر، وعلاج الأزمة يكون فى وجود الثقة، بينما انفردنا بالعلة دون العلاج، لاعتمادنا فقط على الأجهزة الرسمية وحدها، وهنا تبدو أهمية دور الأهرام الذى يفقده إذا ما امتزج بالسلطة.
وضَمَّنَ الأستاذ الحكيم رسالته ــ المصورة بالكتاب ــ بأن الموقف أجل وأخطر من أن ينظر إليه من زاوية شخصية تتعلق بزميل، وإنما هو الحق الذى يراه ونحن نجتاز مرحلة حرجة من تاريخنا، على كل مواطن أن يكون فيها صريحًا. ثم قال:
«فاعذرنى يا سيادة الرئيس إذا أقحمت نفسى وكتبت إليكم لأول مرة بما بدا لى فى هذا الشأن العام. وإنى لعلى يقين دائم بحكمتكم وحبكم لبلادكم بما تريدون لها وتعملون من أجل حريتها ونهضتها. وتفضلوا يا سيادة الرئيس بقبول أصدق آيات التقدير والإجلال. توفيق الحكيم».
إلاَّ أن هذه الرسالة الخطية المسلمة يدًا بيد، أصبحت موضع تحقيقات ثقيلة، طالت بالحبس المطلق لأكثر من ستة أشهر أحمد لطفى الخولى وزوجته، ونوال المحلاوى سكرتيرة الأستاذ هيكل بالأهرام وزوجها عطية البندارى الذى لا ناقة له ولا جمل، إلاَّ حضوره مع زوجته فى زيارة عائلية حضرها توفيق الحكيم ومحمد حسنين هيكل، دارت فيها دردشة استبان أنها كانت خاضعة ــ كالعادة ــ للتسجيل فاتخذت مع الرسالة، سببًا لفتح هذا التحقيق الغليظ والحبس المطلق الذى ربما أعفى توفيق الحكيم منه لعمره الذى كان قد جاوز
 السبعين.
والوثيقة الأولى، وهى مصورة بالكتاب، رسالة صادرة من رئاسة الجمهورية فى 18/5/1970 بتوقيع وزير الدولة «سامى شرف» إلى السيد/ على نور الدين النائب العام. نصها:
«إلحاقًا للحديث التليفزيونى. أتشرف بأن أرفق طيه صورة الرسالة التى بعث بها الأستاذ محمد توفيق الحكيم إلى السيد الرئيس بتاريخ 26/4/1970. برجاء التفضل بالنظر».
وعلى الخطاب تأشيرة بذات اليوم 18/5/1970 ــ من النائب العام، إلى السيد/ عبدالغفار محمد رئيس النيابة».
هذا ولو كان فى الدردشة ما يشكل جريمة مؤثمة، لأحيل المحبوسون حبسًا مطلقًا جاوز الستة أشهر إلى المحاكمة وهو ما لم يحدث، الأمر الذى يؤكد ــ وكما سيتضح من مسار التحقيق ــ أن الأمر أمر الرسالة الخطية التى أرسلها الأستاذ توفيق الحكيم إلى السيد الرئيس جمال عبدالناصر.
هذه الرسالة الودية المخلصة، من كاتب ومفكر كبير بحجم توفيق الحكيم، صارت موضع تحقيقات غليظة، على الرغم من صيغتها الودية وصراحتها المخلصة ونصحها الأمين. فإذا بها موضع ضيق ومساءلة، حتى أن عطية البندارى توقع فى استجوابه سوء العاقبة، فقال مما قال ص19 من صفحات التحقيق المصورة بنهاية الكتاب:
«هو فعلا كان الكلام عن رسالة الحكيم اللى أرسلها للريس والكلام ده حصل فعلا وأقصد إن الريس هيتضايق من هذه الرسالة وحا يضرب الأربعة اللى تناقشوا فيها وهم لطفى الخولى ونوال المحلاوى وتوفيق الحكيم (ولم يذكر الرابع)، وقال وبذات الصفحة: «وأقصد أنه يضربهم لأنهم سمحوا إن الرسالة دى توصله ودى جليطة».
وكان الغريب اللافت للنظر، أن يركز التحقيق على معرفة هل كان حاتم صادق زوج كريمة الرئيس يعلم مضمون الرسالة التى حملها إليه، بل والسؤال عما إذا كان مؤيدًا من عدمه للرسالة إذا كان يعلم موضوعها.
ففى سؤال عطية البندارى ص12/13 بالتحقيق:
س ــ هل ذكر أيهما (لطفى الخولى ونوال المحلاوى) أن السيد/ حاتم صادق كان يعلم مضمون هذا الخطاب أو أنه اطلع عليه؟
جـ ــ معرفش.
س ــ ألم تستفسر عما إذا كان من الممكن أن ينقل السيد/ حاتم صادق رسالة إلى الرئيس دون أن يعلم محتوياتها؟
جـ ــ مسألتش ــ إنما اعتقادى الشخصى إنه ما دام واحد بينقل رسالة لازم يبقى عارف فيها إيه.
س ــ ألم يذكر صراحة أمامك؟
جـ ــ لا
س ــ هل فهمت من الحديث الذى جرى أن السيد/ حاتم كان مؤيدًا لما كتبه الأستاذ توفيق الحكيم.
جـ ــ الحقيقة ما أخدش منى هذا التفكير ولم أسأل والقعدة كانت أساسًا خاصة مش قعدة شغل والحديث كان أساسًا بين نوال ولطفى وأنا لم أتعمق فيه.
س ــ ألم يذكر أحد أمامك أن السيد/ حاتم صادق مرشح لرئاسة تحرير مؤسسة الأهرام؟
جـ ــ أنا سمعت إشاعات بكده، وأنهم شالوا هيكل عشان يجيبوه وأنا شخصيًّا مكنتش متصور إنه يتشال أو إنه اتشال من الأهرام، ورأيى إن لو كان الريس عاوز يشيله حايشيله ما يخدش غير قرار.
وفى ص24 بالتحقيق، عبر عطية البندارى فى استجوابه، عما يختلج فى نفسه مما يحدث معه ومع زوجته. قال:
جـ ــ أحب أن أقول إننى أصبحت أواجه بمثل ــ وأنا آسف للتعبير ــ هذه الاتهامات التى تشبه الحواديت والتى تثير الأسى فى نفس إنسان يعتقد أنه يعمل لصالح بلده ووطنه وقيادته وعمله ولم أخفِ فى يوم من الأيام فى المناقشات ولا الاتصالات آرائى التى أعتقد أنها صادرة عن إيمان بالوطن وتخدم القضية أما أن يصل الأمر الآن ليس فقط إلىّ بل أيضا إلى زوجتى فلا أدرى ماذا أقول حقيقة.
وفى استجواب أحمد لطفى الخولى من ص14 بالتحقيق!
س ــ ما قولك فيما ذكره عطية البندارى فى التحقيق من أنه أثير فى يوم زارك فيه بالمنزل مع زوجته السيدة نوال المحلاوى حديث حول موضوع السيد/ هيكل وزيرًا للإرشاد وأنك ذكرت فى هذه الزيارة أن توفيق الحكيم سيرسل بخطاب للسيد/ الرئيس يعبر فيه عن رأيه فى هذا الأمر. وأنه يرى من الأفضل بقاء الأستاذ هيكل فى الأهرام فقط وأنه تساءل لماذا توفيق الحكيم بالذات هو الذى يرسل هذا الخطاب فقلت له إن السيد/ الرئيس يحبه وإن هذا الموضوع وصل إلى علمك من الأستاذ هيكل أو أن الحديث جرى بشأنه بين الأستاذ هيكل وتوفيق الحكيم بحضورك. «تلونا عليه أقوال عطية البندارى التى أدلى بها بالتحقيق الذى أجراه السيد/ صلاح نصار رئيس النيابة».
جـ ــ أنا لا أذكر شيئا عن هذا، ومع ذلك أريد أن أقول لو صح هذا كله ماذا يعنى؟ هل يعنى هذا نقدًا لتعيين هيكل وزيرًا؟ هل يعنى انتقاصًا من كرامة أحد؟ هل يعنى تطاولا على الرئيس؟ هل يعنى خيانة لقضية الوطن؟
س ــ هل كان هناك اجتماع فى منزلك حضره عطية البندارى وزوجته؟
جـ ــ لم يكن هناك اجتماع، وإنما كانت هناك زيارة عادية هو وزوجته والكلام فيها كان عاديًّا يتناول أمورًا كثيرة كالدردشات التى تحدث بين ناس يجلسون بعضهم مع بعض ولا أذكر حقيقة هل أثير هذا الموضوع أم لم يثر وأنه إذا كان قد أثير فلا بد أننى ذكرت ما سبق أن قلته فى هذا الشأن فى المحضر وقد قلته علنًا فى الاجتماع.
وفى استجواب أحمد لطفى الخولى من ص56 بالتحقيق، نجد إجابات تصور عمق وفداحة هذه المأساة!
س ــ ألم تسمع أو تعلم أن السيد/ توفيق الحكيم أرسل هذا الخطاب إلى السيد الرئيس. 
«عرضنا عليه صورة الخطاب المرسل من السيد/ توفيق الحكيم للسيد الرئيس».
جـ ــ اطلعت على هذا الخطاب الآن وأقرر أن هذه أول مرة أرى فيها هذا الخطاب فلم يحدث أن عرضه على الأستاذ توفيق الحكيم من قبل. وأنا أقرر أن الأستاذ توفيق الحكيم كان قد أبلغنى برغبته فى كتابة خطاب للرئيس وطلب منى مستحلفًا أن لا أذكر ذلك لأحد وهذا هو كل ما لى من علاقة بهذا الخطاب واللى أذكره على وجه التحديد أن السيد توفيق الحكيم قال لى إنه عايز يوصل رأيه إلى سيادة الرئيس ولم يحدد لى الطريقة بدقة. ولا أذكر بالدقة أنه قال لى الطريقة اللى عايز يوصل رأيه بها إلى السيد الرئيس.
س ــ ومتى أبدى لك السيد/ توفيق الحكيم رغبته فى إرسال خطاب للسيد الرئيس؟
جـ ــ لا أتذكر على وجه التحديد أو الضبط ولكن فى الوقت الذى صدرت فيه التعيينات الوزارية الأخيرة.
س ــ وما هى المناسبة التى ذكر لك فيها السيد/ توفيق الحكيم هذه الرغبة؟
جـ ــ أنا أذكر أنه فى ذات يوم واحنا فى المؤسسة، ولا أتذكر فى مكتب من ولكن بالتأكيد كنا فى المؤسسة بدأ الأستاذ توفيق الحكيم حديثه عما إذا كان سيؤثِّر تعيين الأستاذ هيكل وزيرًا على ممارسة عمله فى الأهرام وبالتالى قد لا يجد الوقت الذى كان يعطيه للأهرام مما قد يضعف الأهرام صحفيًّا وأنه يرى أن هذا يجب تلافيه أو علاجه لما فيه مصلحة البلد والدور الذى يؤديه الأهرام كجهاز إعلامى فى الداخل والخارج خصوصًا مع مراعاة أن الأهرام كانت الدعايات الغريبة تقول إنها الصحيفة الرسمية وكان يرى أن وجود السيد/ هيكل فى وزارة الإرشاد سوف يعطى مادة لهذه الدعايات.
س ــ ألم تكن أنت صاحب هذه الفكرة فى إرسال هذه الرسالة؟
جـ ــ لأ، ولكن هو اللى عرض إرسال الرسالة فأنا وافقته، وعلى العموم فإنه شىء طيب أن يتم اتصال بين الكتَّاب المؤمنين بالثورة وبين هذه الثورة وأن تكون الصراحة رائدهم فيما يشعرون به من آراء.
بيد أن هذا الشىء الطيب والمطلوب، أدى إلى حبس لطفى الخولى وزوجته ونوال المحلاوى وزوجها ــ حبسًا احتياطيًّا مطلقًّا جاوز الستة أشهر ــ دون محاكمة!!
وإذ لا شك فى أن هذه الواقعة المؤسفة، كانت من أسباب تسطير الأستاذ توفيق الحكيم لعودة الوعى. إلاَّ أن السؤال: هل عاد الوعى؟!

Email:rattia2@hotmail.com
www. ragai2009.com

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved