حماية الثورة.. تشريعات وسياسات
سيف الدين عبدالفتاح
آخر تحديث:
السبت 10 نوفمبر 2012 - 8:25 ص
بتوقيت القاهرة
فى إطار الحديث عن آليات صارت مهمة للتعامل مع عمليات حماية الثورة المصرية من مثل الحوار المستدام الذى يشكل آلية للحمة وتماسك الجماعة الوطنية وإنقاذ سفينة الوطن، والعدالة ليس فقط باعتبارها قيمة وإنما كذلك كآلية قابلة للتفعيل والتطبيق، يكتمل المثلث بضرورة أن يتوج ذلك بتشريعات وسياسات لحماية الثورة والحفاظ على مكتسباتها وقدراتها فى الاستمرارية لتحقيق غاياتها وأهدافها التى حددها شعارها العبقرى «عيش، حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية».
فى كل مرة سيتجدد الحديث عن الثورة المضادة وعمل الدولة العميقة فى تعويق وإجهاض هذه الثورة، وثورة التوقعات المشروعة فى محتواها ولكنها تؤثر من باب آخر سلبيا على إجهاد هذه الثورة، سيكون من الضرورى بناء استراتيجية كلية لحماية هذه الثورة، لانتوقف فيها عند الكلمات أو الشعارات، إن ثورة 25 يناير أحوج ماتكون الآن لهذه الاستراتيجية للإنقاذ والتمكين معا.
إن مواجهة الثورة المضادة وإجهاضها، وثورة التوقعات وإجهادها، لا يمكن أن يتم إلا من خلال عملية إقلاع حقيقية فى تطبيق وتفعيل وتشغيل وتمكين هذه الاستراتيجية، إن القيام بجدية بهذه الجهود هو وحده الكفيل بمواجهة محاولة إجهاض الثورة المضادة وتقنع أصحاب ثورة التوقعات بأن الأمور تسير فى الطريق الصحيح نحو الأمل الفسيح.
●●●
كل ثورة حدثت فى التاريخ قامت ضدها حركة مضادة للقضاء عليها بهدف الإبقاء على الأوضاع القائمة. وقد اصطلح المفكرون السياسيون على تسمية هذه الحركة المضادة باسم «الثورة المضادة»، وتتكون عناصرها عادة من أصحاب المصالح الذين يشعرون بالضرر الذى يحتمل أن يصيبهم جراء الثورة سواء فى القريب العاجل أو على المدى البعيد وذلك فى ضوء فلسفة أصحاب الثورة وتوجهاتهم وأهدافهم. ودائما ما تلقى الثورة المضادة تأييدا وتشجيعا من قوى خارجية تتفق معها على مستوى المصالح والأهداف.
ومنذ عرفت مصر فى تاريخها الحديث الثورة كانت هناك الحركة المضادة التى تضعف من شوكتها وتجعل القائمين بها أمام أعدائهم قلة منحرفة وشريرة فى مواجهة الأسوياء الطيبين الذين يمثلون القاعدة العامة، ومن ثم فإن كلمة ثورة مضادة تعبر بالأساس عن حركة سلبية قامت لتجهض انتفاضة إيجابية وثورة حقيقية قام بها الشعب، وهذه الثورة المضادة يقوم بها عادة النظام الحاكم الذى أسقطته الثورة الأصلية، وذلك بالتعاون مع أتباعه وفلوله من رموز هذا النظام المخلوع؛ بهدف القضاء على الثورة الأصلية وإعادة الأمور إلى سابق عهدها.
إذا كان هذا شأن ثورة الإجهاض والإجهاد، فما هو الدور الذى يجب أن يقوم به وعليه أصحاب المصلحة الحقيقيون ليس فقط فى مواجهة هذه القوى، بل وتفويت الفرصة عليهم وتقديم آليات جديدة وفعالة قادرة على تجميع كل القوى صاحبة المصلحة فى بناء دولة الثورة ونهضة مصر الجديدة.
●●●
إن حماية أهداف هذه الثورة هى من صميم حماية الثورة ذاتها، ووضع عمليات حماية الثورة فى حزم من التشريعات والسياسات، تضطلع بها وتقوم عليها أصحاب القوى المختلفة صاحبة المصلحة فى تمكين هذه الثورة المباركة سواء كانت فى الحكم أومثلت قوى شعبية فى المعارضة أن تقوم بهذا الدور التاريخى الذى لايحتمل التأجيل أو التهوين أو التفرق عليه والقعود عن العمل له، لأن المشكلة ليست فى الثورة المضادة وأذنابها، ولا فى الدولة العميقة وأدواتها، بل المشكلة الحقيقية فى تشرذم واستقطاب يسود قوى الثورة يصرفها عن المهم والحقيقى الذى يجب أن تقوم به، إن الولولة على وجود الثورة المضادة وأفعالها، لم يعد يكفى والسكوت عن ضرورات المواجهة العادلة والفاعلة والناجزة، خطيئة ترتكبها هذه القوى حينما تنشغل بخلافاتها الثانوية عن معاركها الحقيقية. وحينما تطل قوى الثورة المضادة من جحورها وتعمل بكل قوتها، يجب أن نلوم تفرقنا الذى شكل بحق أهم قابليات عمل الثورة المضادة وإعلانها عن نفسها فى تبجح لا يمكن قبوله، كما لا يمكن تمريره.
إن من أهم السياسات التى يجب أن تحاط بآليات حقيقية ترتبط أولا حماية للثورة، إنما يتعلق بتوثيق ذاكرة الثورة، هل يعقل أن تمر هذه الأحداث وتتجدد وتتراكم من دون تـاريخ حقيقى يحفظ ذاكرة هذه الثورة، التى تشكل بحق حدثا مفصليا فى تاريخ مصر المعاصر، إن إهمال ذاكرة الثورة هو أخطر طريق لنسيانها وتشويهها وتزويرها تحت بصر وأعين من شارك فيها، إن جمع الوثائق من جهة أو جهات متخصصة، وتوثيق الشهادات المختلفة هو الطريق الأهم للتمكين لذاكرة الثورة وقدراتها فى الحال والمآل.
كذلك فإن من أهم السياسات الواضحة والتشريعات المساندة والآليات الفاعلة والمؤسسات الناجزة، التمكين لعملية القصاص الحقيقية لدماء الشهداء والمصابين الذين سقطوا فى هذه الثورة، إن هذا التمرير لأحكام البراءات ليس فى حقيقة الأمر إلا استفزازا لثورة هذا الشعب والاستهانة بدماء شهدائه حتى لو انتحلنا المعاذير وسقنا المبررات لأحكام البراءة، وكأن سقوط القتلى أمر اعتيادى كما يقول البعض فى هذه الأحداث وأن تحديد الجانى من سابع المستحيلات، إن وجود لجان الحقيقة وجمع الأدلة لكل الحوادث التى مرت بنا فى هذه الثورة، والإعداد لجيل ثان من المحاكمات الناجزة والعادلة لكل الأمور التى سبقت الثورة وصاحبتها وأعقبتها هو نوع آخر من التوثيق ولكن هذه المرة فى ثوب من المحاكمات التى تؤرخ لهذه الثورة أسبابا ووقائع.
●●●
إن محاكمة هؤلاء الذين أفسدوا الحياة السياسية يجب ألا يمر أو يتم إغفاله لأن ذلك ليس إلا عنوانا لغفلة هذا الشعب لحماية ثورته وعدم الاستهانة بمقامها، محاكمات تزوير الانتخابات وعمليات التعذيب والنيل من أبناء هذه الثورة، كل ذلك يجب أن يكون محلا للقصاص العادل والمحاكمات الناجزة لا العاجزة. إن وضع التشريعات فى هذا الصدد صار أمرا عاجلا وعادلا، والعمل على الآليات والإجراءات أمرا نافذا واجبا، وتشكيل الكيانات أمرا ضروريا ُثابتا.
كذلك فإنه من الأمور الواجبة القيام بوضع استراتيجيات حقيقية لعمليات تطهير صارت واجبة الإنجاز من غير تأجيل لأن ترك أدوات الفساد والإفساد ترعى فى جنبات الدولة وتعمل بكل قوتها وطاقاتها إنما يشكل تمكينا لهذه الحالة مع مرور الزمن وكثير من الأمور إن فات وقتها استحال وصعب تداركها، مجابهة الفساد فى معركة حقيقية أمر أساسى لحماية هذه الثورة، فإذا كان الاستبداد يعسف بكرامة الانسان، فإن الفساد يأكل العمران والإنماء والإنسان جميعا. ووجود بيئة الفساد على حالها لايمكن أن يتحقق معها شعار الثورة (عيش، حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية) ولا بناء دولة الثورة، إن جهازا لمكافحة الفساد صار ضروريا مع فساد أجهزة الرقابة المنوط بها كشف الفساد، الفساد لن ينتظر الإصلاح البارد لهذه الأجهزة، وإنشاء جهاز جديد يتحرك قبل إحكام شبكة الفساد والمصالح من الأمور الضرورية التى لا تحتمل الانتظار. ياسادة التطهير أحد أضلاع عملية التغيير وعملية البناء والتعمير.
●●●
دعونا إذن نقول وبأعلى صوت : هل يمكن أن تصلح أدوات الثورة المضادة لأن تحقق أهداف هذه الثورة وحماية مكتسباتها؟! إنها المفارقة التى تفرض علينا مهمة استثنائية لإنقاذ الثورة باستراتيجية جامعة لحزم من السياسات والقرارات والخيارات والآليات والإجراءات والمؤسسات والتشريعات، التعامل بالقطعة مع هذا الوضع أمر خطير، والتعامل بالتأجيل مع هذه الأمور إثم كبير.