الحرية بين الأسواق والإنسان

محمد محمود الإمام
محمد محمود الإمام

آخر تحديث: الإثنين 10 نوفمبر 2014 - 8:15 ص بتوقيت القاهرة

رفعت ثورة 25 يناير، شعار الحرية.. وكأى ثورة شعبية ضد الاستبداد، كان المقصود هو الإنسان، خاصة تلك الشريحة العريضة التى اختنقت أنفاسها بسبب استئثار فئة قليلة على السلطة والجاه، معتمدة على السيطرة على النشاط الاقتصادى دون اعتبار لمدى تمكينه كافة المواطنين على تلبية حاجاتهم الأساسية، وتجنبهم البطالة، بدعوى أنه يكفل توازن الأسواق فى ظل تمتعها بالحرية، والمناداة بالليبرالية كنظام اقتصادى.

ومع ذلك تسيّد الحوار فى أعقاب ثورة 25 يناير حول ماهية النظام المرغوب تياران يغلب عليهما صفة الأوتوقراطية: الأول يسعى إلى إقامة دولة دينية على مراحل، تنتهى إلى تدشين خلافة تجمع السلطة فى شخص يأتمر بفقيه يفتى فى أمور الحياة بدعوى أنها جميعا تخضع لأحكام الشريعة كما استقرت فى صدر الإسلام، دون اعتبار لما استجد من معارف وممارسات أدخلت تغيرات هائلة فى حياة البشر وتنظيم علاقاتهم، متجاهلا الثنائية المتكررة فى كتاب الله التى تجمع بين الإيمان والعمل الصالح. وهو نظام لا يعتمد على مشاركة فى التشريع بين المرتضين للخضوع له، بل يكتفى باستئناس رأى أهل الذكر على سبيل الشورى التى ترد الكرة إلى رأس الدولة. وهذا النظام أشد خطورة من النظم الأوتوقراطية الوضعية التى أشاعت الاستبداد لأنه يفرض السمع والطاعة ولو دون اقتناع، خاصة وأن جرم التكفير يحرم المتهم بارتكابه من حقه فى الدنيا والآخرة. ومن ثم فهو تيار مرفوض ويجب ألا يكون مجالا لحوار يدور من منطلق كفالة الحرية فى الوطن للجميع، ويترك التزام الفرد بالدين لربه.

الخيار الثانى شهد من الغوغائية ما أثار خلافات حالت دون التعمق فى تفاصيله مما أصابه بضرر كبير، خاصة عندما رفع الرافضون للدول الثيوقراطية شعار العلمانية، وهو لفظ يعبر عن ترجمة مبهمة لنظام أريد به التخلص من التحكم الكنسى فى شئون الدنيا فى عصر شهد من دواعى التطور ما لم يسد من قبل، فصادر على تقدم قوامه ابتكار يحمل فى طياته قدرة على الإبداع والخلق. ولكون هذا التعامل مع المجهول لا تتضح كافة أبعاده إلا بعد السير فيه من منطلق محدد، فإنه أثار اختلافات بل وخلافات جعلته يتخذ أشكالا عديدة. فقد نشأ بعد تجاوز الإنسان طور التعامل المباشر مع الطبيعة ومواردها فى القطاعات الأولية (الزراعة والمناجم) ودخلت المعدات الرأسمالية بينهما لتكسب الإنسان قدرة مضاعفة على الإنتاج وتنويعه، فانتزعت ملكيتها مركز الصدارة من الإقطاع المصحوب بالرق. وبعد أن كان الإنتاج الحرفى يقوم على أساس طلب مباشر ممن يريد الحصول على ناتج عمله، أدت وفرة إنتاج المنشأة الإنتاجية إلى المبادرة بالإنتاج وعرضه فى سوق توقعا لأن يجد ما يغطيه من طلب. أى أن كلا من جانبى العرض والطلب يجرى حساباته بناء على توقعات تنفى وجود عوائق يثيرها أى منهما أو من أطراف أخرى، بما فى ذلك دولة تقتصر مهامها على وظائف الأمن الداخلى والخارجى وتيسير حركة الإنتاج. فإذا أخطأ فرد فى توقعاته، فلا يلومن إلا نفسه. وهكذا ساد الزعم بأن حرية السوق تعنى فى الوقت نفسه حرية أفراد المجتمع فى فعالهم الإنتاجية والاستهلاكية. وتطور هذا النوع من التفكير من نظريات كلاسيكية إلى أن وصل إلى مصطلح الليبرالية التى تميز النظم ذات الأسواق الحرة عن الاقتصادات المدارة مركزيا (وإن أطلق عليها خطأ المخططة مركزيا).

وأدى هذا إلى ادعاء أن الحريتين: السياسية وهى الديمقراطية التى تلقى قبولا واسعا، والاقتصادية المسماة ليبرالية وجهان لعملة واحدة. فرفعها البعض دون تأمل فى حقيقة الليبرالية، والبعض الآخر متسترا لإعادة الحال إلى ما ساد فى ظل النظام الذى أطاحت به الثورة. ولو كان جديرا بتلبية حرية الإنسان لما ثارت شعوب على تطبيق دول ضعيفة تفتقد مقومات المناعة إزاء القوى الرأسمالية العاتية إصلاحات اقتصادية بموجب توافق واشنطن الذى فرضته أمريكا على المؤسستين الاقتصاديتين الدوليتين المقيمتين فى عاصمتها، البنك الدولى وصندوق النقد. ولما تبنت منظمات دولية أخرى تتعامل أساسا مع البشر بإصلاح ذى وجه إنسانى وجعل السوق صديقة للإنسان.

علينا إذن، إذا صح تمسكنا بمطالب الثورة بالحرية المقترنة بالعدالة الاجتماعية، أن نتخلى عن ترديد مسميات لا تعكس حقيقة دعاوانا، بما فى ذلك تبنّى الدعوة إلى الاشتراكية التى تمثل عباءة فضفاضة، يفوق أحيانا الصراع فيما بين الرافعين راياتها صراعهم مع الليبرالية. ويتعين على المشاركين فى الحوار أن يتوافقوا على أمور أساسية تاركين المساحات الكافية لطرح كل منهم رؤية تحقق ما استقر الاتفاق عليه. ونطرح هنا عددا من النقاط التى تحتاج إلى مثل هذا التوافق:

ما معنى حرية الفرد إذا لم تزوده الدولة بالقدر اللازم من المعرفة اللازمة لإظهار مواهبه والحصول على عائد يناسب ما يستغله من هذه المعرفة فى سوق تتيح له المشاركة الفعالة؟

وكيف يتسنى للجميع الحصول عليها فى غيبة قيام الدولة برعاية تنظيم مجتمعى يوفر إمكانية المشاركة بما فى ظل تجنيب السوق ما يعرف بفشل السوق، سواء لعوامل داخلية أو خارجية؟

ما هى الأدوات التى يتوافق عليها لتدخل الدولة إذا لم تتوافر لكافة الأفراد تلك الإمكانية، أو إذا لم تكن كافية لتحقيق القدر اللائق من الرفاهية لمختلف فئات الشعب؟

وفى ظل اعتماد التنمية على استحداث منتجات لم تكن معروفة من قبل، وبالتالى ليست لها أسواق قائمة أو أسعار دالة، ما معنى الحديث عن حرية السوق؟

فى عصر يشهد ثورة تكنولوجية مستمرة ما هى حدود الاعتماد على الأسواق المحلية والعالمية فى اختيار دعائم لتنمية تواكب التقدم العلمى، وما هى حدود تدخل الدولة فى إنشائها وتوجيهها؟

وبحكم أن الخدمات المعتمدة على المعارف والمهارات الفردية، ما هى أدوات الموازنة بين تقارب الدخول كأداة للعدالة الاجتماعية وحفز القدرات المتمايزة بتعويضات لا تتعارض معها؟

هل ينطبق على دولة مثل مصر أن تقتدى بدول جزيرية كسنغافورة ودبى فى أن تسلم قيادة التنمية لقطاعات تعمل بالوساطة بين التدفقات العالمية، من قبيل مشروع السويس الذى أراد مرسى به جعلها ممرا للمنتجات التركية إلى أفريقيا؟

ما هى الأدوات التى تحمى الأسواق المصرية من تجاوز النظم المصرفية العالمية لدورها الأساسى فى خدمة قرارات التنمية، وتحويل النقود إلى منتجات تطغى أسواقها على الأسواق الإنتاجية؟

بحكم أن جهاز الدولة يتكون من أفراد الشعب الذى ترعى مصالحه، ما هى متطلبات رفع كفاءاتهم سواء فى توفير متطلبات حرية السوق أو التدخل المحسوب فى حركتها؟

فى ضوء أفضلية إفساح المجال أمام تنمية إقليمية ذات روابط قومية، ما هى مقومات التعامل المتكافئ مع الأسواق الإقليمية والقومية؟

ما هى مقومات استيعاب مقومات استدامة التنمية وما تتطلبه من عدالة بين الأجيال المتعاقبة، وتمكين مؤشرات السوق من الاسترشاد بها وأخذ توقعات التغيرات البيئية فى الحسبان؟

هذا جانب من أمور لابد من تناولها بالحوار المستمر، لإيقاف مستنقع تبادل الاتهامات الذى يكاد يشل حركة إعادة البناء على أسس تحظى بالحد الأعظم من القبول

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved